خالد الصلعي
سأحاول اليوم القيام بمقاربة ظاهرة الصراع حول هامش السلطة بالمغرب ، لأنه لم يعد يأخذ بعد الصراع السياسي ، بقدر ما انحرف الى صراع ، او لتلطيف الوصف تنافس فج بأساليب متخلفة . قلت سأحاول مقاربة هذا التنافس من جانب او زاوية الذاكرة . وهو جانب كما يلاحظ المتتبع يلعب عليه الجميع ويوظفه كل فريق حسب أهوائه ومصالحه . ففريق النظام الذي يمثله أخنوش يحاول أن يمحو من ذاكرة المغاربة جوهر الأحزاب الادارية ، بينما فريق النظام الآخر ، وهو فريق بنكيران يحاول ان يغسل دماغ المغاربة من كل اخطائه التي ارتكبها في حق الشعب لخدمة أجندات القرارات الدولية المتماهية مع قرارات اللوبيات المغربية .
اذن فالمهمة بسيطة وسهلة ، تتمثل أساسا في اعادة تركيب مشهد الجريمة ، جريمة تغييب وعي الجماهير وتسطيح ذاكرته والضحك عليه ، من خلال اجتزاء صور الحقيقة لصالح هذا الطرف أو ذاك .
وكما يقول كانط في تمييزه بين الخيال والذاكرة: ” حين أتذكر منزلاً فأساسه دائماً أسفل وسقفه في الهواء ” ، اذن فنحن حين نستعيد ذكريات حدث تشكيل حكومة بنكيران بعد تكليفه بهذه المهمة ، فانه يجدر بنا العودة الى بداية المشاورات ، وهي البدايات التي تعثرت قليلا بفعل غياب الملك عن المغرب ، حيث كان بين يدي بنكيران أغلبية مريحة تمنحه الحق في تشكيل فريقه الحكومي . لكن طول غياب الملك خارج الديار الوطنية واصطحابه لفريق سياسي دون آخر كان يحمل في طياته رسائل مشفرة عديدة ، وهي الرسائل التي حرص على تمريرها في أكثر من مناسبة ، مما شكل مادة دسمة لدى المحللين السياسيين المغاربة للبحث عن مغزى اصطحاب مستشاريه دون أعضاء حكومته ، كما حدث سنة 2012 في زيارته لعدد من دول الخليج العربي ، وهو ما ختمه في زيارته الأخيرة لدول من القارة الافريقية.
بعد عودة الملك تغيرت اللعبة وتمرد حزب الاتحاد الاشتراكي على بنكيران والتحق بحزب الأحرار مما جعل تشكيل حكومة بنكيران امرا مستحيلا . هنا بدأت لعبة القط والفأر بين أخنوش وبنكيران ، الى درجة جعلت الأخير يربط تشكيل الحكومة بضرورة وجود حزب الأحرار فيها ، بعد ان استوعب الدرس جيدا ، لكن حزب الأحرار بعد ان ضمن موالاة حزب الاتحاد الاشتراكي وتيقن من استحالة تشكيل الحكومة في ظل الواقع المستجد ، اصبح يملي شروطه على الرئيس المعين ، وبلغت لعبة الأخذ والرد مداها . طبعا تخلل هذه اللحظات انزلاقات وأخطاء كبيرة ، بدءا بتصريح بنكيران تجاه روسيا وليس انتهاء بتصريح شباط الحليف الاستراتيجي لبنكيران تجاه مريتانيا .
الصورة هنا تبدو بسيطة لا تعقيد فيها . لكن منطق السياسة يعتبر من أعقد حقول المنطق التداولي ، اذا صح التعبير . عرقلة تشكيل الحكومة او ما يسمى الآن في القاموس السياسي المغربي ب”البلوكاج ” ، عرقلة متعمدة ومصنوعة ؟ اذ لايعقل ان يتفاوض صاحب ادنى عدد من المقاعد من موقع المتحكم في اللعبة ، او من موقع صاحب اكبر عدد من المقاعد ، وقد عبر عن هذه الحقيقة بنكيران نفسه في احدى اجتماعاته الرسمية بأعضاء حزبه . بل حاول أن يمنحها بعدا سورياليا حين سرد قصة بائع البقرة مع احد روار السوق بعد انتهاء الكلام .
بعد تصريحات شباط ، وتحت ضغوط هائلة رضخ بنكيران لشروط غريمه وعدوه الذي يعتبره حسب تصريحاته صديقا عزيزا ورجلا طيبا ، وتخلى عن شباط بعد أن وعد وتعهد بعدم التفريط فيه تحت أي ذريعة اذ ان اخلاقه لا تسمح له باخراج حزب لادخال حزب آخر ، وهذا ما لايحب ان يؤاخذه به المغاربة ويسجله التاريخ في حقه حسب تصريحه . لكن الرجل نسي خلال أيام قليلة جدا كلامه الكبير هذا وتنكر لشباط ، في حين تشبث أخنوش بحلفائه ، وأهمل هو ولعنصر المدة المحددة لتقديم اجابتهما حول مشاركتهما دون حليفيهما الاتحاد الاشتراكي والحزب الدستوري ، وهي رسالة اخرى أكثر وضوحا ، تعني ان تشكيل حكومة بقيادة بنكيران أصبح خطا احمر ، وهو ما دفع بنكيران الى كتابة بلاغه الأخير المشهور ب “انتهى الكلام ” بطريقة انفعالية ومتشنجة . لكن ما ان عاد الرجل الى طبيعته عاد مرة أخرى للاتصال بأخنوش ليعرض عليه رئاسة البرلمان ، الهدية المسمومة التي رفضها الأخير . ولم ينته الكلام . اذ ان أمر مصادقة البرلمان بعد تشكيله على قرار دخول المغرب للاتحاد الافريقي لا يمكن لأي برلماني مغربي أن يعارضه ، وكما أن هيكلة البرلمان وتشكيله قد تتم في غضون دقائق قليلة .
الصورة واضحة وبسيطة ، ولا يمكن لأحد ان يكذب هذه الوقائع المسجلة بالصوت والصورة والخط ، او ينكرها ويزايد عليها . فهل يبدو هنا اي مؤشر لقوة بنكيران ، او كما كتب المؤرخ المعطي منجب أن الأمر يتعلق باحراج للملك ؟ ، هل الملك خارج اللعبة حقا ام داخلها ؟ ، من هو الأقرب الى الملك ، اخنوش او بنكيران ؟ ، وهل يتعلق الأمر هنا بمناوشات بسيطة قد يغفلها الملك ام بمصير بلد وتشكيل حكومة ؟ .
ما يمكن قراءته داخل النسق السياسي المغربي ان مرحلة بنكيران انتهت ، ووظيفته على المستوى الاجتماعي والاقتصادي استنفدت دورها . وهو حتى اذا عاد الى منصبه كرئيس للحكومة فانه سيعود أكثر ضعفا وأكثر هزيمة . لعبة المخزن التي لاراد لها الا باستثناءات يستحيل بنكيران أن يقدم عليها .
ماذا يبقى بعد اعادة تركيب عناصر القضية ؟ . نهاية مرحلة عبد الاله بنكيران ، وبعملية حسابية دقيقة ، فانه يستحيل على الرجل أن يستعيد صورته ما قبل تصريح “انتهى الكلام ” ، لأنه فعلا انتهى منذ ان تخلى عن الشعب لخدمة أجندات ضيقة جدا .