عبد اللطيف وهبي
إن أي شعب في العالم يمكن أن يعاني من الفقر، أو من الجوع، بل قد يموت الإنسان من شدة ذلك، أو يتحمله، ثم يخرج إلى الحياة من جديد ويبني ويحقق ما يصبو إليه، لكن الأخطر على الإنسان من الجوع والفقر، هو حينما يفقد القدرة على التفكير، وعلى الحق في الإبداع، فالأدمغة إذا توقفت عن التفكير تنتهي الحياة وتتراجع معها الشعوب.
فالتفكير مسؤولية وطنية، والكتابة مسؤولية كونية، ومن أجل البلد يجب على الإنسان ألا يتردد في التفكير بوضوح وأمام الملأ، وفي التعبير عن أفكاره، حتى يساهم في النقاش العام الذي يهم مصلحة الوطن، كيفما كانت أفكاره مخطئة أم صحيحة، فيجب عليه أن يعبر عنها، لأن التعبير عنها مسؤولية وطنية.
إن تطور الوطن يحتاج إلى التفكير بصوت عال، مهما كان رد فعل الآخرين، فلا يكفي ذلك النقاش بالصوت الخافت، أو تلك التقية المصطنعة، بل إلى التفكير الجماعي، وصاحب القرار لا تؤثر فيه الأرقام أو المعطيات بالحدة نفسها التي تؤثر فيه النقاشات الوطنية وتعبيرات المواطنين، حتى يمكنه أن يتفاعل معها، لأن الحقيقة تكمن في الفكر الجماعي والذكاء الجماعي، وهذه الجماعية تتم بشكل تلقائي، وهمُّ المواطن في جميع الأحوال يكون نبيلا ومضغوطا بالهم الوطني.
لذلك ظل المغاربة لسنوات يناقشون ويتجرؤون على التفكير بصوت عال، حتى في السنوات التي كان ثمن ذلك يؤدى بشكل غال، بل يؤدى أحيانا لمجرد التفكير، فكيف لا نوظف هذه الحرية التي نعيشها اليوم، وتطور وسائل الاتصال في تفكير جماعي وبصوت عال يسمعه الجميع؟
فالصمت لا يخدم مصالح الوطن، ولا حتى السياسة، فالسياسي أو القيادي الذي يعيش في مجال يسوده الصمت، فإنه يعيش الخداع، فيزيد من الثقة في نفسه إلى درجة الغرور، لأنه لا يسمع إلا فكرة واحدة هي فكرته، خاصة حين يجد الذين يحيطون به لا يرددون سوى فكرته وحدها، فيتحول شيئا فشيئا إلى مارد يلغي جميع من حوله.
فصناعة التاريخ لا تتم سوى بالأفكار التي يعبر عنها بصوت مرتفع، ويسمعها الجميع، لا يهم إذا وقف البعض ضدها، أو اختلف معها البعض الآخر، لأنه في نهاية المطاف يلتقي الجميع حتما حول البعض منها.
والغريب في الأمر أن وطننا بالرغم من توفره على مواطنين بإمكانيات فكرية قوية، فإنه يعاني من الصمت، بل أكثر من ذلك تجد الذين يفكرون يتوارون إلى الوراء، إما لأنهم لا يرغبون في المواجهات، أو لأنهم يكتشفون أن بعض الجهلة يتحكمون في المحيط الفكري العام.
والحقيقة أن تراجع المفكرين إلى الوراء، هو الذي يعطي الشرعية للفارغين، وأن صمت من له القدرة على التفكير وعلى الكتابة في حقيقة الأمر هو خيانة في حق الوطن، لأن التفكير بصوت مرتفع ليس حقا فحسب، بل هو واجب ملقى على عاتق كل مواطن يعيش داخل هذا الوطن ويستفيد منه، فالتفكير ضرورة، وقد يكون بشكل فردي، وقد يكون بشكل جماعي داخل مؤسسات الأحزاب والجمعيات وغيرها من الوسائط التي يمكنها أن تسير في الطريق الصحيح، وبالشكل الصحيح.
فالديمقراطية في المغرب لن تقتلها المؤامرات والحسابات الضيقة، بقدر ما يقتلها صمت المفكرين، واعتزال الطبقات الوسطى الكلام، وهؤلاء هم القادرون على إحيائها، وهذه مسؤوليتهم التاريخية.