مولاي التهامي بهطاط
أعود مرة أخرى لموضوع التنمية بإقليم جرسيف مكرها، لأن الانتماء لهذه المنطقة المهمشة والمنسية يفرض علي تسليط الضوء على ما تتعرض له هذه الأيام، من هجوم شرس من طرف “الإقطاع الجديد” الذي يمهد الأرض لنوع مستحدث من المعمرين، “الكولون” بلهجة البلد..
العودة هذه المرة، تأتي للإشارة إلى مفارقة عجيبة تتمثل في وجود تصورين متوازيين متناقضين لا يمكنهما التقاطع نهائيا..
فمن جهة، هناك تصور الإدارة والهيئات المنتخبة التي تعتبر التنمية مجرد عملية تلفيقية، يحكمها منطق التدبير اليومي، بمعنى اللجوء إلى أسهل الحلول وأقصر الطرق للترقيع وتدبير المستجدات لحظة بلحظة، بدل التخطيط الواعي للمستقبل..
قد يكون لقصر النظر هذا مبرره بالنسبة للمنتخبين الذين غالبا ما تحكم تحركاتهم هواجس انتخابية محضة .. لكن ما عذر الإدارة -بكل تشكيلاتها وتجلياتها- ولماذا لا تنظر إلى ما هو أبعد من أنفها؟
ومن جهة أخرى، هناك تصور تحمله الساكنة وترافع عنه بعض فعاليات المجتمع المدني، يتمثل في ضرورة استغلال المقدرات والمؤهلات الطبيعية لتحقيق الطفرة التنموية التي طال انتظارها، شريطة ان يكون الإنسان هو الغاية والوسيلة، وهذه -من دون شك- رؤية تناقض تماما سابقتها كما أسلفت أعلاه..
إن المعادلة معقدة وليست بسيطة كما يحاول البعض تسويق ذلك..
ولتوضيح الصورة أكثر، يمكن تقديم مثال حاضر اليوم بقوة..
فحسب التصور الأول، إن أفضل طريقة لـ”التدبير”، تتمثل في تفويت المنتوج الغابوي للقطاع الخاص، للحصول على مداخيل مالية -مهما كانت بسيطة- لتوفير قليل من السيولة لسد ثقب هنا أو هناك..
عيب هذا التصور أنه لا يأخذ متغيرات الواقع بعين الاعتبار، ولا يتعلم من الماضي القريب منه والبعيد..
فهذه الآلية التي تم الاعتماد عليها طيلة أكثر من 30 سنة، لم تؤد إلى أية تنمية، بل ساهمت في القضاء على المجال الغابوي، وفي دفع السكان إلى الهجرة نحو المراكز الحضرية القريبة، أي أنها ساهمت فقط في تصدير المشاكل الاجتماعية والاقتصادية من القرية إلى المدينة ..
فالمقاولة الخاصة لا يهمها الإنسان ولا التنمية، بل ينصب همها على تحقيق أكبر قدر من المكاسب الآنية بأقصر الطرق وبأقل التكاليف، وأظن أنه لو فتح تحقيق واسع وشفاف في ملف الغابة بإقليم جرسيف عموما، وبقرية رشيدة خصوصا، لتكشفت مصائب ليس أقلها حالة التنافي حيث إن البائع كان هو المشتري في أغلب الأحيان، وعلى مدى عقود..
ولهذا لا يستطيع أحد اليوم الإجابة عن سؤال : ما الذي تحقق في مجال التنمية المحلية، على مدى 30 سنة من تفويت المنتوج الغابوي إلى القطاع الخاص؟
فالواقع أصدق إنباء، وهو يؤكد أن نتيجة هذه السياسة كانت تدميرية على الأرض والساكنة والغابة ..
أما حسب التصور الثاني، الذي بدأ يفرض نفسه حاليا على مستوى الساكنة والفعاليات الجمعوية، ويتطلع لتجاوب الإدارة، فإن العائد سيكون أكبر بكثير جدا، لو أخذ صناع القرار المحلي بعين الاعتبار، التنمية المستدامة كهدف على المدى البعيد.
ولا يحتاج هذا الأمر إلى شرح او توضيح، بما أن تمكين التعاونيات المحلية من استغلال المنتوج الغابوي سيساعد في توفير مورد دخل قار للساكنة وفرص شغل مباشرة وغير مباشرة، وفي تشجيعها على الاستقرار، وبالتالي الارتقاء بمستوى عيشها إلى ما فوق الحد الأدنى.
وهذا ليس كلاما يطلق على عواهنه.
فلو كان صناع القرار يتوفرون على منظور تنموي فعلي، فما الذي قد يكلفه إنشاء وحدة لتثمين النباتات العطرية والطبية؟
أظن أن مبلغ 10 ملايين سنتيم يكفي وزيادة، بل إن التواصل مع وكالة تنمية الشمال -مثلا- كفيل بالإعفاء حتى من دفع هذا المبلغ، فضلا عن الإمكانيات التي يوفرها مخطط المغرب الأخضر والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والتعاون الدولي، ومساهمات المنظمات غير الحكومية العابرة للدول والقارات..
لكن هذا يتطلب اقتناعا أولا، من طرف مدبري الشأن المحلي بالتنمية كرهان ينبغي كسبه، كما يتطلب توفر الإرادة الغائبة لحد الآن وبشكل واضح..
لا أحد يستطيع أن يفهم -فأحرى أن يدافع- عن خيار اللجوء المتكرر لـ”الخوصصة”، بدل فتح المجال أمام الساكنة للاستفادة من مقدراتها خاصة في ظل انشغال العالم أجمع بدعم “الاقتصاد الاجتماعي” واستحداث مفهوم “التجارة المنصفة/ العادلة” التي تسعى لتمكين المنتِج المحلي من أكبر قدر من العائد، وهي تقنية انخرط فيها المغرب مؤخرا كما تشهد بذلك الاتفاقيات التي وقعتها وكالة التنمية الفلاحية مع المتاجر الكبرى لتشجيع تسويق المنتوجات المحلية.
إننا حين نطرح هذا المشكل على مستوى إقليم جرسيف، لا نريد التقوقع ضمن حدود دائرة ترابية معينة، بل نريد لفت الانتباه إلى مشكل عام، يتمثل في غياب البعد التنموي في التدبير المحلي، رغم كثير من الشعارات التي يتم تسويقها في كافة المنتديات.
فهل يمكن الحديث عن تنمية محلية في ظل اللجوء المتواصل إلى “السمسرة” العمومية، التي يكون الخاسر الأكبر فيها هو الخزينة الجماعية، بما أن الأساليب التي يعتمدها لوبي “الغابة” تحديدا، تساهم في خدمة اقتصاد الريع..
الإشكالية إذن كبيرة جدا ومتداخلة، وتتطلب من الإدارات المركزية تدخلا عاجلا لتصحيح المسار قبل فوات الأوان، على الأقل لإعطاء المصداقية للخطابات الملكية حول التنمية المستدامة.