أحمد الدغرني
ألقى الملك محمد السادس، يوم 29 يوليوز 2017، خطابا طرح علينا تساؤلات ترددت كثيرا في مناقشتها ومحاولة الجواب عنها؛ لأنني لم يسبق لي في كل ما كتبته أن ناقشت خطابا ملكيا، وكنت أعتبر أن الكثيرين من الناس الذين يعيشون داخل المغرب ولم يهجروا بلدهم لا يستطيعون أن يناقشوا كلام الملك بصراحة، إما خوفا أو نفاقا، أو هم من الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم، ويقولون: ولا الضالين… أو من يفضلون السكوت كمبدأ، ويخفون قناعاتهم حتى يأتيهم الموت…
لكن هذه المرة قررت أن أناقش الخطاب متخذا منهجية للمناقشة العلنية والصريحة لهذا النوع من الخطاب من لدن مواطن من صميم الشعب، محروم من استعمال وسائل الإعلام العمومية، وليس له مظلة تحميه…
تذكرت الآن واقعة حصلت لي مع الأستاذ حسن أوريد عندما كان ناطقا رسميا للقصر الملكي، وحضرت صدفة إلى مقر مركز طارق بن زياد قرب محطة القطار المدينة بالرباط، فوجدت معه كاتبا فرنسيا مشهورا أظنه Benjamin Stora يهيئ كتابا عن الملك محمد السادس وهو في بداية ملكه، وتحدثا بحضوري، وسمعت كلاما بينهما لم يعجبني، حاولت أن أتكلم بدوري، فنهرني الناطق الرسمي بصوت قوي: “سكوت نتا”، وما زلت أرفض من يقول للناس: “اسكت نتا” فَلَو تكلم الساكتون جميعا لكثرت الحلول وانفتحت العقول.
ومن القواعد التي اعتمدتها في الكلام أن أحاول أن أجيب عن بعض الأمور التي طرحها الخطاب، كما فكرت فيها بتواضع وحصرتها في 19 فقرة، وأبدأ بقوله في الخطاب حرفيا:
1/ “نعيش اليوم في مفارقات صارخة من الصعب فهمها أو القبول بها”: هذه فقرة تطرح ما يصعب فهمه على جلالة الملك، ويصعب قبولها، والفهم لهذه المفارقات الصارخة يتعلق بمستشاري الملك، والمحيطين به، فما دورهم في الفهم إذا ربطنا بين المسؤولية والمحاسبة؟ على من يفهم أن يتكلم.
2/ ثقة كبار المستثمرين كـ”بوينغ ورونو وبوجو”: هذه فقرة تطرح إشكالية الاقتصار على ذكر ثلاث شركات وحدها في سوق توجد به شركات أخرى تتنافس فيما بينها واحدة منها Boeng أمريكية، والثانية والثالثة فرنسيتان Renault،et Citroën ، ومن ربط المسؤولية بالمحاسبة أن يطرح للشعب كيف حصلت هذه الشركات الثلاث على الأراضي ونيل هذه المرتبة في السوق المغربية دون كبار الشركات العالمية الأخرى؟ كالروسية والصينية واليابانية ودّل أوروبا الشمالية، هل هي لا تثق في المغرب؟ أو هناك احتكار؟
3/ “القطاع الخاص يتميز بالنجاعة والتنافسية”: هذه الفقرة تطرح القطاع الخاص، وتصفه بالنجاعة والتنافسية، والقطاع له تأثير على فساد السياسة، لأن أقطابه يجمعون بين رئاسة الأحزاب وتولي الوزارات، ويجمعون بين تسيير الشركات الكبرى وتسيير مرافق الدولة، ولهم صلات بعجز القطاع العام وضعف الإدارات والبحث عن المناصب والريع، وهنا يجب الانتباه إلى جعل أثرياء الخواص مسيطرين على إدارات الدولة… والوظائف بقصد الربح.
4/ “المراكز الجهوية للاستثمار تعد عائقا”: نشأت هذه المراكز سنة 2002 برسالة ملكية إلى الوزير الأول، وفتحت في جميع الجهات المغربية، وهي -كبقية المراكز من نوعها- خضعت التعيينات في المناصب والمسؤولين من مقربي ذوي النفوذ في التعيينات.
5/ “العقليات التي لم تتغير”: عدم تغيير الأشخاص الذين لم يتغيروا من مناصبهم مدى الحياة هو سبب عدم تغيير العقليات، ولا ينتظر من المسؤول الإداري أو الحكومي أو المستشار الذي لا يتغير من منصبه تغيير عقليته، فكثير ممن خلدوا في مناصبهم تمكنوا من توريث المناصب السياسية والدبلوماسية لأبنائهم وبناتهم، وخلق شبكات عائلية في القطاعين العام والخاص..
6/ “الاختباء وراء القصر الملكي وإرجاع كل الأمور إليه”: هذه الظاهرة السياسية خلقتها عناصر الدوائر المخزنية في القصر الملكي بسبب وجود أناس لهم نفوذ في القصر، توسع نفوذهم إلى القطاعين العام والخاص، والشبكات العائلية، والأحزاب السياسية، وهم الذين يريدون إمساك الأمور بين أيديهم، فهذا الاختباء وراء القصر يأتي من داخله، ويصعب إتيانه من خارجه.
7/ “ما جدوى وجود المؤسسات وإجراء الانتخابات؟”: كثير من المؤسسات، وخاصة الوكالات والمجالس والمكاتب والمديريات والمندوبيات السامية، تستهلك الأموال، وخلقت أصلا ليتوظف فيها بعض الناس ويعينوا فيها أقرباءهم وأتباعهم، أو لمجرد التمويه بوجود ديمقراطية في البلاد، أو للتأثيرات على الرأي العام الخارجي…
أما إجراء الانتخابات فهو رهين بفساد السياسة والأحزاب، ورهين بالسلطة المشرفة على الانتخابات وهي غير محايدة، ورهين بأموال الدولة التي تصرف في دعم الأحزاب والنقابات، ورهينة بالأرباح والنفوذ الشخصي الذي يحصل عليه المنتخبون بعد فوزهم، ولذلك يسعون إلى شراء المقاعد واستعمال وسائل الدعاية التي تشبه الاحتيال والنصب على المصوتين.
8/ “العزوف عن الانخراط في العمل السياسي وعن المشاركة في العمل السياسي”: كيف تكون الأحزاب على الحالة التي وصفها الخطاب ويدعى الشباب إلى المشاركة معها في العمل السياسي؟ العزوف ناتج عن فساد السياسة، واحتكار العمل السياسي من لدن الأحزاب المرخصة، وعن سيطرة الولاة ووزارة الداخلية ودوائر مركز الحكم على السياسة، وعن عدم توفير جو المنافسة السياسية من حريات الانتماء، وعن تقييد المجتمع بقيود عقائد السلطة الحاكمة، وعن سيطرة العائلات النافذة في السياسة ومناصب الحكم..
9/ “بعض الفاعلين أفسدوا السياسة”: فساد السياسة ناتج عن تشكيل الحكومات من أشخاص غير سياسيين مثل الولاة الذين يعينون في الوزارات ومناصب الدبلوماسية، ومثل بعض الشخصيات التي تتولى مناصب تسيير الحكم بسبب مجرد الولاء المطلق المزعوم من لدنهم، وهم في الغالب منافقون، وانتهازيون وأعداء الشفافية والديموقراطية ويختبئون وراء القصر الملكي.. ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تُمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين !
10/ “لكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر”: التعبير بأن الوضع لا يمكن أن يستمر يتطلب مقترحات عملية لإيجاد وضع جديد وبديل للوضع الذي لا يمكن أن يستمر، ولا بد من البديل الممكن، وأن لا يسكت أو يتخاذل من يرى أنه يتوفر على بديل للوضع الفاشل الذي لا يمكن أن يستمر.
11/ “ضرورة تطبيق الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور بربط المسؤولية بالمحاسبة”: المحاسبة تتطلب حرية التعبير، وتتطلب منافسة بين الأحزاب، والإنصات إلى المواطنين والسماح لهم بحرية التجمع وحرية تأسيس الأحزاب، أي أن المحاسبة لها شروط، ولا يمكن للإدارة العاجزة والتي تتصف بكل الأوصاف التي ذكرت في الخطاب أن يحاسب بعضها البعض، أي أن المسؤولية ترتبط بمحاسبة الشعب للمسؤوليين بما في ذلك من ينتمي إلى دوائر القصر الملكي..
12/ “إننا في مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن”: تطبيق هذه القاعدة يتطلب أن لا يكون هناك فرق بين من يستغل الفوسفات والمعادن والأراضي والشواطئ، ومن لا يجد وسيلة عيشه اليومي، وأن يبدأ هذه المرحلة الجديدة من الثروات الكبرى، ومن فتح قنوات التواصل المباشر بين الشعب ورؤوس السلطة الذين يعيشون فوق بروح وقصور لا يمكن الوصول إليها…
13/ “الفكرة السائدة لدى عموم المغاربة بأن التسابق إلى المناصب هو بغرض الاستفادة من الريع واستغلال السلطة والنفوذ”: هذه الفكرة لها وسائل إثبات صحتها من كون الجميع يعرف أصحاب المناصب الذين كانوا فقراء وأصبحوا أثرياء بعد زمن قصير من توليهم للمناصب، وسكّان الأحياء الراقية في المدن كحي السويسي في الرباط وشواطئ عين الذئاب في الدار البيضاء تثبت أن أغلبية من يسكنها من أثرياء ريع المناصب السلطوية ويمكن إحصاؤهم بمجرد جولة بسيطة في الأحياء السكنية، والمواقع المهمة في التجارة والمقاولات…
14/ “ولم يخطر لي على البال أن يصل الصراع الحزبي وتصفية الحسابات السياسوية إلى حد الإضرار بمصالح المواطنين”: والآن وقد خطر على البال يجب محاربة الذين ارتكبوا هذا الصراع، وفضحهم علانية، وإرغامهم على تعويض الأضرار التي ألحقوها بالمواطنين.
15/ “إن تراجع الأحزاب السياسية عن القيام بدورها.. قد زاد من تأزيم الأوضاع”
“أمام هذا الفراغ المؤسف والخطير وجدت القوات العمومية نفسها وجها لوجه مع الساكنة (أقصد الحسيمة)”:
إن الأحزاب السياسية التي منحت لها تراخيص الوجود كانت أدوارها محددة من لدن الدولة، وأعطي لها وحدها احتكار تأسيس الأحزاب، وأعطي لها استعمال وسائل الإعلام للدعاية الكاذبة، وأعطي لها الدعم المالي من المال العام، وبقية من يرغب في العمل الحزبي يتعرض للمنع، ومن ذلك الحزب الديمقراطي الأمازيغي المغربي، وغيره ممن عرقلته السلطات وحرمته من حق تأسيس الأحزاب، والحل هو فتح الباب واسعا لتأسيس الأحزاب الجديدة.. وعلاج مشكل تراجع الأحزاب المرخصة ناتج عن احتكار التنظيم الحزبي من لدن الذين أحدثوا الفراغ وتراجعوا عن القيام بعدم تأزيم الأوضاع، وسد الفراغ في حراك الحسيمة…
15/ “هناك من يقول بوجود تيار متشدد، وآخر معتدل، يختلفان بشأن طريقة التعامل مع هذه الأحداث”: هناك تشديد في استعمال القوة لمواجهة الحراك السلمي في الريف يظهر في التطويق، والضرب، والاعتقالات والأحكام القاسية، واستعمال فرض الخوف والعسكرة، ونقل المعتقلين إلى الدار البيضاء، وفرض التنقلات على عائلاتهم من أجل زيارتهم، وإطلاق الدعايات المغرضة ضدهم، وهذا التيار المتشدد موجود وثابت بتلك المعاملات المعروفة، أما التيار المعتدل، فلم يثبت وجوده، ويبقى لو وجد وله صوت مسموع كان سيكون أحسن من المتشدد..
18/ “إن النموذج المؤسسي المغربي من الأنظمة السياسية المتقدمة إلا أنه يبقى في معظمه حبرا على ورق”: المهم هو معرفة سبب جعل هذا النموذج المؤسسي حبرا على ورق.. بالتأكيد، لا بد من معرفة السبب وإزالة العطب، وهو ربما يبدأ من أعلى هرم السلطة وليس من أسفله، والإيجابي جدا هو أن يعترف الملك بشجاعة بكون معظم النظام المؤسسي حبرا على ورق، ويبقى الحل من مهمة كل من يستطيع اقتراح الحلول بشجاعة شريطة وجود من يستمع ويحاور الشعب..
18/ “وإلى كل مسؤول أن يمارس صلاحياته دون انتظار الإذن من أحد”: تعيين المسؤولين بالوسائط، وانتماؤهم إلى شبكات تجارية ولوبيات سياسية، يسأل أولا من وراء كل مسؤول؟ لتكشف الأسباب الحقيقية التي جعلته مكتوف الأيدي يفكر في مصالحه الخاصة، ويبيع بالرشوة خدمات الإدارة العمومية..
19/ “لم أتحدث عن قضية وحدتنا الترابية، ولا عن إفريقيا”: من الأحسن الآن تناول هذه النقط التي ناقشناها أعلاه، وهي ذات أولوية قصد تلافي مخاطر المستقبل، وتخصيص وقت آخر لتناول الصحراء وإفريقيا لأنها استغرقت كثيرا من الوقت الضائع في السياسة.