محمد بنعزيز
فيلم “بائع الادوية” للمخرج الإيطالي أنطونيو مورابيطو مزيج من التوثيق والتخييل على خلفية قضية مثارة عالميا. يعكس الفيلم قدرة المخرج على إمساك لب اللحظة الحارقة في إيطاليا اليوم. هناك انتقاء للحدث الدال الذي يراكم التوتر. بذلك أمسك المخرج أزمة مجتمع بكامله. ساعتان إلا ربع من التوتر المبني خطوة خطوة والمتفرج يتبع حقيبة تتسكع في المدينة… وقد عرض الفيلم ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان سينما المؤلف بالرباط والممتد بين 29أبريل و5فبراير 2016.
الكاميرا المحمولة توتر المتفرج وتجعله يعيش نفس توتر الشخصية الرئيسية. يصور المخرج بطله في أمكنة ضيقة، بين جدران أشبه بنفق. ويزيد قرب الممثل من الكاميرا من توتر المتفرج. فكل حركة من يده تبدو كأنه تتجه لوجه المتفرج.
حتى لحظة الاكل صورت بطريقة متوترة لأن الفرد لا يحصل على لحظة راحة.
لقد ادى الممثل الكبير كلاوديو سانتا ماريا دوره دون ارتجال ودون تذبذب المستوى. حسب ممثل في الفيلم كان هناك شهر من تجارب التصوير قبل بدء التصوير الفعلي. النتيجة هي أن الممثل الرئيسي في توتره، كل انتباهه مع هاتفه. فهو عالمه. سكن منطق الشركة قلبه وعقله، شعاره هو “المال الطبيب الدواء”، بالنسبة له الحياة مغامرة والإنجاب مغامرة. يرفض ان تنجب زوجته وهي في سن الخامسة والثلاثين… إنها أزمة الإنسان البائع التي سبق لإيليا كازان أن عرضها في فيلم “التسوية”.
تقول شركات الدواء للناس بأن الصحة هي كل شيء، لكن في السوق الربح هو كل شيء. على كل طبيب أن يدمج أدوية الشركة في كل وصفاته. تريد شركة تصنيع الأدوية مقابلا لرشاويها لا يقل عن أحد عشر ضعفا، لذلك تعمد للإغراء والبحث عن نقط ضعف الأطباء لبدأ المساومة والابتزاز أو تقديم رشاوي عينية وهي رحلات وعاهرات وسيارات… وتضمن الشركة ربحا أكبر بإشعال تنافس شرس بين موظفيها. وهي تستغني عن من تعب.
أنت هل تعبت؟ ماذا تبيع وكيف؟
لذا على كل موظف أن يجري أكثر من غيره،من كثرة الضغط فقد بطل الفيلم البوصلة، وصارت حياته تشبه دهاليز مرأب سيارات مظلم تحت عمارة عملاقة. وهذه هي الاستعارة الأولى في الفيلم، الاستعارة الثانية لفئران جائعة في مختبر وأمامها أكل مكهرب. إما أن تموت جوعا أو تتكهرب. في الأخير تتوتر ويفترس بعضها بعضا. ينطبق ذلك على تنافس موظفي تسويق الدواء…
لا تهم صحة الناس، المهم هو الربح. لقد تمت السيطرة على أطباء القطاع الخاص وجار ترويض أطباء القطاع العام. الفساد في الفيلم هيكلي وليس فقط فساد تفاحة واحدة في صندوق سليم. الفساد في كل مكان، وهذا ما يتأكد حين يحضر بائع الادوية حملة انتخابية لمرشح يعد بأن يحارب الفساد. البعد السياسي حاضر في الفيلم الإيطالي، والسياسة جد متصلة بالحياة الشخصة. لذا فالفساد يدمر الدولة والفرد، وقد فهم البطل ذلك حين اكتشف ان صديقا مريضا يأخذ أدوية شركته فصعق. لا يزعجه موت الغرباء. لكن الدواء حطمه هو وزوجته وصديقه. لا يمكننا أن نؤذي الآخرين دون أن نتأذى. الأذى لا يتجزأ. عندما ينزف عدوك فأنت تنزف أيضا. لا يوجد أذى مربح.
السينما الإيطالية حية قوية. وأحفاد فيليني يتبعون نهجه، بوسائل محدودة وميزانية صغيرة وقوة إبداعية وممثل قوي وقصة متماسكة ولمسة سياسية…