عصام واعيس
الدراسة الأخيرة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي عن مستوى التحصيل الدراسي في المملكة تثبت، مرة أخرى، حبرا على ورق، في وثيقة رسمية، صورة التعليم كما تنطبع في الأذهان وتحكيها التجارب: صورة قاتمة عن منظومة تغمض عينيها في إغفاءة أخيرة.. بعد معاناة طويلة مع المرض..
الدراسة التي أنجزتها الهيئة الوطنية للتقييم بالمجلس والمكلفة بـ”القيام بتقييمات شمولية أو قطاعية أو موضوعاتية للسياسات والبرامج العمومية في ميادين التربية والتعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر والتكوين المهني، مع تقدير نجاعتها البيداغوجية والمالية، بالنظر إلى الأهداف المرسومة لها، وذلك بالاستناد إلى المعايير الدولية المعمول بها في هذا الشأن”، كشفت أن التعليم كما تُدبر أمره الدولة المغربية وتفصّل مناهجه وترسم استراتيجياته وتكوّن أطره وتُلقنه للفقراء والبائسين، تعليم لا يعوّل عليه. إمكان التفوق فيه يبقى ثمرة مسارات شخصية متفردة، وليس نتاج نظام تعليمي ينتج الامتياز.
تقرير المجلس يقول، ضمن ما يقول، إن التعليم الخصوصي يجعل ألسنة التلاميذ رطبة في الفرنسية، تماما مثل العيش داخل أسر مفرنسة اللسان، فيما التعليم العمومي يجعل ألسنة التلاميذ متعثرة في كافة اللغات، بما فيها العربية. التقرير يشير إلى ضعف عام في مكتسبات التلاميذ، ما يعني، بكلمات أخرى، أن غالبية التلاميذ يقطعون رحلة الشتاء والصيف إلى حجرات الدراسة دون طائل، اللهم توسيع لائحة الأصدقاء والصديقات بفايسبوك وإنستغرام، وتبادل الرسائل الغرامية، عبر واتساب..
لماذا هذا التردي؟ يمكنك أن تقرأ عددا من التحليلات، بين من يرى المشكل في المناهج التي تخاطب تلميذا غير موجود في القرى والجبال والمداشر والواقع المغربي عموما، وإنما مستنسخا خياليا (Avatar) قائما في أذهان كُتّاب المناهج وحدهم، وبين من يرى المشكلة في لغة التدريس بالأساس، باعتبار أن الحسم فيها يتفرع عنه الحسم في أمور أخرى، ومن يقترح، في هذا الصدد، فرنسة كل شيء، وعلى نقيضه، من يقدّم التعريب الكامل كحل. من يتهم الأستاذ بضعف الكفاءة وقلة التضحية، ومن يتهم التلميذ بالكسل، والوزارة بالتقصير، والمخزن بالتدجين، واليسار بالعلمنة، والإسلاميين بالأسلمة (كذا!)، وكل جهة بكل شيء..
فهذا المخزن يبحث عن الاستمرار في توظيف المناهج التعليمية من أجل نشر بذور الولاء و”الطمأنينة المعرفية” في عقول أبناء الرعايا، وهذه طائفة من الفعاليات الحقوقية والمدنية والسياسية تسعى إلى تكييف تلك المناهج، مع أدبيات حقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة وحقنها بجرعات غير مسبوقة من”حكمة الغرب”، وتلك أصوات محافظة، تعمل، عكس ذلك، على التصدي لهذا التكييف مخافة تجريف الهوية في طريقه والانتقال من هيمنة المخزن إلى هيمنة الأمم المتحدة! وهكذا تصير محاولة تقديم حل علمي دقيق وناجع لأعطاب التعليم، رهينة بسجالات إيديولوجية ومعارك من أجل الهيمنة تختبئ في ثوب دراسات وآراء وأوراق علمية.
لا أنتقص هنا من قدر كافة الآراء أو الدراسات لمجرد أنها تصدر عن موقف حقوقي أو سياسي، فالتجرّد التام أمر متعذر على البشر، بقدر ما أنتقد إقصاء مداخل أخرى، ومقترحات يمكن أن تركز على المبادرات العملية، الميدانية، المباشرة، لا سيما من جانب الوزارة. صحيح أن هذه المبادرات قد تكون محاصرة بحيز اشتغال ضيق، بما أنها تركز على مشاريع وأهداف صغيرة، لكن سيكون لها قدر كبير من النجاعة، (مثل مشروع استثمار الألعاب في تطوير تدريس وتعلم الرياضيات الذي يجري بجهة كلميم بشراكة مع كلية علوم التربية بجامعة مونتريال الكندية). مثل هذه المبادرات العملية أفضل بكثير من أطنان الاستشارات والتقارير والأوراق التوجيهية والمؤتمرات، وغيرها من مظاهر هيمنة اللفظ على المعنى، والتجريد على التنفيذ.
في أوقات، حين أُثير أوضاع التعليم وأخباره مع أمي، تسرح ببصرها للحظات، كأنها تَعْبرُ نحو “زمن مفقود”، ثم تعود من هناك، بذكريات جميلة عن أيام “مادام بواسيي” و”موسيو باباداتشي” و”مادام وموسيو لوغرون” المجيدة، وسنوات جميلة تتلمذت خلالها على يد مدرسين فرنسيين، ثم مغاربة حفروا قواعد النحو الفرنسي ومعادلات الرياضيات جيدا في ذهنها الناشئ. أستمتع بحكاياتها عن التعليم العمومي، كأنها تروي لي بدايات رجل شجاع، يشهد جيلي نهايته..