رمضان مصباح الإدريسي
تقديم:
لو كانت مجرد طفرة صحون طائرة، أفضت إليها خلافات استقلالية، شبابية وهامشية، لما كان لي أن أتوقف عندها هنا، محللا؛ لأنها مما يحصل في بعض المؤتمرات واللقاءات؛ حينما يفشل الحوار السياسي الراقي والبناء؛ ويقرر الفاشلون مواصلته بالمناكب واللكمات والأقدام، وحتى بالتدمير الشامل، كما نلاحظ اليوم في الدول العربية، التي تعيش عقابيل الاستثمار السياسي الاستبدادي، في بناء أنظمة ديكتاتورية، وإهمال بناء دولة المؤسسات الديمقراطية.
لا، إن ما شاهدناه جميعا في خيمة المعيشة الاستقلالية؛ حيث جالت العاديات ضبحا، وصالت المغيرات صُحونا؛ لم يكن مجرد طفرة استقواء بين متنافسين على الأمانة العامة للحزب؛ بل لهيبا حارقا غذاه جمر كامن؛ أو كما قال المجذوب:
” حَمَّام مَبنِي بحْجَار نارُه؛ الفوقْ مابانْ دُخانْ والْتَحت طابو حْجارُه”
المؤتمر الرابع عشر يفسر السابع عشر
بعد انتماء للاتحاد الاشتراكي- لم يعمر طويلا- غِبَّ مؤتمره الاستثنائي (1975)، والمساهمة في تأسيس فرع بركان، اقتنعت بأن رجل التعليم في غنى عن الانتماء السياسي، مادام منخرطا في أم المعارك؛ معركة تربية وتعليم الأجيال.
هكذا ابتعدت كلية عن التحزب، دون أن أعاديه، أما فائض الوقت فقد طبعت في مهجتي، منذ عشرات السنين، ألا يكون لغير التثقيف الذاتي والكتابة.
بعد أزيد من ثلاثين عاما، عن هذا، دفعتني ظروف انتخابية محلية، في جماعة مستفركي، إلى البحث عن مظلة سياسية، ولم تكن غير حزب الاستقلال، لحضوره القوي القديم في القبيلة؛ هكذا أسست بمعية ثلة من المعارضين للتدبير الجماعي – وقتها – الفرع الذي اختارني كاتبا، واعتُبرت، بموجب هذا، عضوا في المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بوجدة.
بهذه الصفة حضرت المؤتمر الرابع عشر للحزب- مارس 2003 – بمركب الأمير مولاي عبد الله بتمارة.
لماذا أعتبر هذا المؤتمر مفسرا لما وقع في مؤتمر الصحون الطائرة؟
وقتها كان الحزب في مركز قوة – داخلية وخارجية- سواء من حيث التماسك أو وحدة الكلمة، اعتبارا لعدم وجود معارضة للأستاذ عباس الفاسي، على مدى ولايتيه المتعاقبتين على رأس الحزب؛ واعتبارا لمشاركة الحزب في حكومة التناوب التوافقي، ثم رئاسته الحكومة بعدها.
ورغم هذا وُضعت “ديمقراطية” الحزب، وقانونه الداخلي، على المحك، ربما لأول مرة في تاريخه:
كان على المؤتمر، وقد شارك فيه أربعة آلاف مندوب، بمن فيهم مناديب جنوبنا الصحراوي، أن يبت في أمر الولاية الثالثة للسيد عباس الفاسي، اعتبارا لممارسته مهمة الوزير الأول، بهذه الصفة؛ لأن القانون الداخلي المعتد يحدد تجديد مهمة الأمانة العامة في مرة واحدة.
لو لم يكن لمولاي امْحمد الخليفة رأي آخر، لزُفت الولاية الثالثة للراغب فيها، بالإجماع التام.
لقد تمسك الرجل بحقه في الترشح للأمانة العامة؛ هو القادم من مدينة مراكش بقضه وقضيضه؛ خصوصا أن الأستاذ محمد بوستة، رحمه الله، كان حاضرا في المؤتمر بكل ثقله، وبكل العتاب الخفيف، الذي لم يخفه، للأستاذ عباس الفاسي، والذي رد بكون الأمين العام السابق لم يتصل به مهنئا، إذ كلفه جلالة الملك بتشكيل الحكومة.
كانت هناك ردود فعل، واحتد النقاش على مستوى المؤتمرين، وربما احمرت بعض العيون هنا وهناك.
لعل الأستاذ عبد الواحد الفاسي استنجد، يومها، بتبصر والده الزعيم علال الفاسي، وحتى بالورش الاستقلالي الكبير الذي مثله كتاب “النقد الذاتي”، ليقود سفينة المؤتمر، الآخذة في التأرجح، صوب الساحل الهادئ.
يومها، وبحضور الحكمة الاستقلالية، التي مثلها كبار الحزب، وعلى رأسهم المجاهد المرحوم أبو بكر القادري، تم التوصل إلى نوع من التوافق، بدا في غاية الحبكة:
*سمح للأستاذ الخليفة بالترشح؛ وسارت الأمور كما لو أن تدافعا قويا سيحصل بين أنصاره وأنصار عباس الفاسي. وفي جميع التوترات، هنا وهناك، لم يستل صحن من تحت الطاولة أو من فوقها، ولم يفكر أحد في تمريغ الخبز في التراب.
أو يفعلون وبعض كبار المجلس الرئاسي حاضرون؟ أو يفعلون وروح “النقد الذاتي” ماثلة أمامهم في وجه عبد الواحد الفاسي، الهادئ، وكأنه يفكر شعرا؟
*لكن قبل المنعطف الحاد، ترجل مولاي امحمد عن صهوة إصراره على الترشح، وصعد منصة المؤتمر ليعلنها مدوية: وحدة الصف، والحرص على قوة الحزب في تدبير الحكومة، أهم من طموح رجل مراكش الثامن (بعد السبعة رجال).
*انتهى المشهد بعناق حار بين المترشحين القويين، وبإعصار كبير من التصفيقات لثمانية آلاف يَد.
* عم هدوء شامل، إذ شرع الأمين العام – للمرة الثالثة- في الرد على مكالمة، استأثرت بكل انتباهه، وحينما أقفل الخط خاطب الأستاذ عباس الفاسي المؤتمرين: إنها تهنئة، وإنها من صاحب الجلالة، وهي للجميع، على نجاح المؤتمر .
إعصار ثان من التصفيقات، لأن حزب الاستقلال لا يتصور بعيدا عن الملكية في المغرب، ولا هي تستغني عنه.
ومن أين صحون المؤتمر السابع عشر؟
من عادة الحزب أن يقيم خياما كبيرة للإطعام، بفضاء الملعب الأميري، ومن عادته أيضا أن يولم بخرفان، وبكل ما لذ وطاب.
كنا، يومها، داخل خيمة من هذه الخيام، وقد اتخذ الجميع مجلسا له ضمن الثمانيات التي تتوزع بنظام حول الموائد. بدا كأن الكل حاضر، لولا أن فاجأتنا همهمات ونحنحات كثيرة قادمة صوب الخيمة. من القادم؟
إنه شباط، الذي اختار أن يستثمر لحظات انتظار الجياع للطعام، ليستأثر بالانتباه، ويبذر بذورا ما في النفوس، كان هو وحده يعلم متى ستنبت وتزهر.
لم يمض صوب السبعة الذين ينتظرون اكتمال عددهم بالثامن، بل حَوَّل كل الطاولات إلى كعْبات طواف. طاف على الجميع وسلم على الجميع بعينيه، وببسماته، وبأنف الناقة أيضا.
حينما أقبل على ثمانيتي كنت من بين المسلمين على الرجل، الذي سيملأ الدنيا ويشغل الناس، وصولا إلى التراشق بالصحون، ربما داخل نفس الخيمة، لكن بعد أربعة عشر عاما.
كل الذين يفترض أن يتألموا، ألَمَ زعماء، ماتوا.
ما مات الأستاذ امحمد بوستة حتى مات مضرب سيفه.
أُقصي ابن علال الفاسي، ووجهه، من ركح المنافسة الى دروب “بلا هوادة”.
أبعد هذا نتساءل: من قتل النقد الذاتي؟
من أين أتت الصحون؟
ابتعدتُ عن الحزب منذ قرابة العشر سنوات، إذ بدا لي أنني التحقت بظل حزب علال.
لكن رغم هذا لا بد أن يسأل الجميع عن أسس العمارة السياسية بالمغرب؛ من أين أصابها البلل، ومن أين صدئت؟