فهؤلاء المحتفى بهن قد ابتسم القدر لهن وهن يحصلن على الشواهد العليا، وينتزعن الوظائف المحترمة في مغرب صارت العطالة رقمه الأول المخيف والمثير للفزع، ويستقررن في وسط حضري متاحة فيه متطلبات الحياة الأساسية…لكن المشكل ،كما ذكرنا، هو مأزق النسخة الأخرى من نساء المغرب اللواتي حبسهن الفقر والحرمان، أو أقعدتهن التقاليد عن طرق أبواب المدرسة، وحتى إن طرقنها يتخذ ولوجهن إياها صفة الزيارة الخفيفة ليخرجن كما دخلن خاويات الوفاض، يجررن وراءهن كل معاني الخيبة والانكسار التي تؤهلهن، أو تؤهل كثيرا منهن لدخول سوق النخاسة في سن مبكرة كخادمات وظيفتهن الأولى والأخيرة تسخير شقائهن لإسعاد الأسياد، وعبراتهن لصنع ابتساماتهم الصفراء وقهقهاتهم المتعالية الصاخبة، وسهادهن وأرقهن لتوفير النوم الهادئ الطويل المصحوب بالشخير لهم، وليعشن في الأخير تحت سقف الإرهاب الاجتماعي المحاط بأربعة جدران تحجز العيون عن رصده أو تتبعه، بل حتى العلم به، فيجد التربة خصبة لينمو ويسدر ويتعاظم، ويوقع من ثمة على مفارقة صارخة مدوية تتحول فيها طفلة صغيرة، كان حريا بها أن تكون في الأحضان، وأن تتلقى قبلات الوالدين صباح مساء، إلى أمة لطفلة في سنها أوتزيد عليها أو تنقصها قليلا، تستيقظ في الصباح الباكر لتحضر لها وجبة الفطور، وتوقظها بهدوء تام حتى لا تزعجها، وتصفف لها شعرها، وهي الشعثاء الغبراء، ثم ترافقها إلى المدرسة وتشيعها بقبلات امرأة عجوز واهنة لفتاة غضة في عنفوان طفولتها، لتعود إلى وكر الخدمة وتؤدي فروض الطاعة والولاء للكبار المتفتحة شهيتهم لسماع عبارات التسييد، والمتعطشة أفواههم إلى كلمات التبخيس والاحتقار، متقمصين دور الجبابرة في البيت ضد هذا الكائن المسمى إنسانا، ربما تعويضا عن كرامة مهدورة خارجه يمثلون فيها دور الضحية المستلب الذي لا حول له ولا قوة، مجسدين بهذه الثنائية الضدية قول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: ما تعاظم أحد على من هو دونه إلا بقدر ما تصاغر على من هو فوقه”.
في عيد النساء هذا كم من امرأة قبلت وردتها الحمراء وتسلت بها طوال اليوم بعدما أهداها إياها أخ أو زوج أو قريب، وكم من امرأة بالمقابل فرض عليها واقع المغرب العميق أن تقبل دموعها، دون أن تجد من يكفكفها، وتجد فقط من وما يزيدها غزارة وانهمارا.
في هذا العيد كم من امرأة ضمت إلى صدرها بانتشاء رسالة خطت كلماتها من ذهب بيد زوج حريص على دغدغة مشاعرها وتذكيرها برابطة الحب المقدس التي تجمعهما، وكم من امرأة انزوت ككومة من القش في ركن البيت باكية منتحبة بعدما احتضن جسمها الذابل الركلات والصفعات، وشنفت آذانها بكلمات الويل والثبور، لا لشيء إلا لأنها كسرت كأسا أو صحنا أو أحرقت طعاما، أو رفعت ـ ناسية ـ صوتها فوق صوت السيد الهصور.
في هذا العيد كم من امرأة حملت صورتها الكاميرات والهواتف النقالة، وهي تحتفل بهذه الطريقة أو تلك بما تراه عرسها، رافلة في زينتها، تتلألأ حليها التي تطوق معصميها وجيدها تحت الأضواء الكاشفة، وكم من امرأة حملت حزمة الحطب على ظهرها وطوقت عنقها بحبل من مسد الفقر المدقع والتهميش والهشاشة، وناءت بحملها الثقيل بين الفجاج والشعاب، لتصلى نارا ذات لهب في عتمتها، تلهب قلبها المكلوم قبل أن تلهب الحطب، وتهزها هزا، وتحفر في نفسها أخاديد عميقة، وهي الوحيدة في عذابها، لا تجد من يعينها أو يشاركها في النوء بحملها الثقيل.
في هذا العيد كم من امرأة رفعت عقيرتها عاليا مطالبة المساواة مع الرجل، منددة بكل جرأة بالعقلية الذكورية والمجتمع الأبيسي، وسط تصفيق جمع المذكر ومباركته للشجاعة الأدبية ، قبل جمع المؤنث، وكم من امرأة رميت بعبارات الكفر والردة لمراجعتها أمر زوج خدعوها حينما قالوا لها إن طاعته مقدمة على طاعة الله، وإن التردد والتلكؤ في الاستجابة الفورية لإيماءاته يوجب صقرا في الدرك الأسفل من النار.
حتى لا ننسى نساء المغرب العميق المحنطات في ثوب الإقصاء، نتوجه، دوما وأبدا وليس في هذه المناسبة فقط، بكل عبارات الاحترام والإجلال والتقدير لهؤلاء اللواتي كتب عليهن الشقاء وهو كره لهن، وكتب عليهن أن ينتقلن بين الخطوب والمآسي في غسق الظلام، دون أن يجدن من يسلط عليهن الأضواء الكاشفة لينقل إلى الآخرين صورة مأساة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق.