يوم استثنائي في تاريخ فرنسا، طوفان بشري هائل فاق الثلاثة ملايين حسب مصادر إعلامية لم يسبق له مثيل منذ فوز فرنسا بكأس العالم لسنة 1998.
ضاقت الشوارع والساحات والميادين بالحشود البشرية من مختلف الأديان والأعراق والجنسيات واللغات.. لإحياء مسيرة الحرية ونبذ العنف. حملت خطابات وشعارات متباينة ومتناقضة. مسيرة نبذ العنف تكرس العنف في الزمان والمكان. إذ رفعت بؤر الانفجار؛ رفعت مرة أخرى الرسوم الكاريكاترية المسيئة للرسول الكريم وللإسلام والمسلمين.
منتهى التناقض والازدواجية والفصام النفسي والعقلي ذاك الذي تابعناه في مسيرة ازواجية المعايير التي تحتمل كل التسميات إلا أن تسمى مسيرة الحرية ونبذ العنف.
قد يبدو لبعض أو كثير من القراء أن هذا الرأي مجانب ليس للصواب وإنما لما تريد وسائل الإعلام الغربية التأسيس له، لاقتناص الفرص المجانية-للأسف التي وفرها هؤلاء المجرمون من قتلة شارلي إبدو والمتجر اليهودي- للعربدة بالقيم الإسلامية والمسلمين بالديار الغربية.
فأنا ضد كل بذور العنف ومظاهره في كل مكان وزمان، وأيا كانت محركاته ودوافعه. غير أن السؤال الحارق، لماذا هذا الحشد الإعلامي الهائل لقضايا هي من البسيطة في بلداننا العربية والمسلمة وهائلة استثنائية ومفصلية عندهم؟
ألا يمثل هذا مبلغ التناقض والكيل بمكيالين وازدواجية المعايير؟ والمبررات لذلك كثيرة:
• الاستثناء يبرز في مشاركة زعماء أكثر من خمسين دولة من أوربا وأفريقيا وأمريكا وأسيا. وهو استثناء نادر لم يحصل حتى في احداث الحادي عشر من شتنبر.
• الدراما والميلودراما تقع حينما يشارك في المسيرة التي رفعت عناوين نبذ العنف والقتل، وبعض المشاركين فيها هم علامات مسجلة للقتل والارهاب بالعالم والاراضي الفلسطينية على الخصوص. الأمر يتعلق بمشاركة قاتل الأطفال وصانع الأرامل والثكالى والأيائم.
أن يرتدي الإرهابي الأول في العالم قبعة المسالم المندد بأعمال احترفها وبنى دولته الوهمية عليها. ويصرح أنه جاء من أجل التنديد بالإرهاب الإسلامي، رابطا ربطا مقصودا مفتعلا بين الإسلام والإرهاب، فهذا منتهى التناقض والازدواجية في التعامل مع قضايانا الإسلامية.
• هل يمكن للذئب المتوحش الآكل للحوم البشر أن يسير رفقة «قطيع الحمل» ويروج لصورة السلم والتعايش، في وقت تنتهك فيه الآلة الحربية الصهيونية كل القيم الإنسانية النبيلة وتحل محلها القيم الحيوانية المتوحشة الشيطانية بالأراضي الفلسطينية؛ بين رفح والخليل والقدس.. إلى غزة الأبية التي يهلك أطفالها وشيبانها يوميا، لا من شدة البرد القارس كما يروج بل من فرط قطع التيار الكهربائي للتدفئة، رغبة في ضرب القنبلة الديمغرافية القادمة بفلسطين والمرعبة للاسرائيليين. أليست هذه سياسة قتل المسكين والذهاب في موكب جنازته؟. ودون أن نلج هنا إلى أحداث باريس والمسؤول المباشر عن وقوعها.
• ما صرح به كبير الأساقفة في نيجيريا حول سبب هذه الضجة الإعلامية الكبيرة حول أحداث باريس، فيما يدير العالم وخاصة الغرب رأسه إلى الجهة الأخرى بعدم التعبير عن تضامنه المشهود هذا إزاء الماساة القاسية والتدميرية التي يشهدها العالم الاسلامي، وما وقع أخيرا في نيجيريا بعد مقتل أكثر من ستة عشر مدنيا إثر تفجير صبية لنفسها بأحد الأسواق العمومية.
• لماذا يتم وضع نظارات سوداء قاتمة أمام الجرائم التي تقترف في حق العرب والمسلمين خاصة في العالم المسلم وليس الإسلامي.
• الجرائم الإرهابية المرتكبة في حق أطفال غزة أخيرا وهلاك الواحد منهم تلو الآخر بفعل فاعل يهودي صهيوني معروف لدى القاصي والداني.
• مأساة موت الأطفال والأسرى واللاجئين السوريين بالبراميل الحارقة والقنابل الفسفورية والمساندة الروسية والايرانية المفضوحة للأسد.
• القتل بدماء باردة للملونين الأمريكيين من طرف الشرطة ذات اللون الأبيض
دون محاسبة أو متابعة، في بلد يرى في الديمقراطية أس هويته ووجوده.
• مأساة المواطنين السنيين العراقيين والحرب الشعواء الممنهجة في حقهم من قبل الأمريكيين بالفلوجة والشيعة بالموصل والأنبار..
انطلاقا مما قدم للقارئ، يطرح السؤال لماذا يتم التكريس لهذه المنظومة من المعايير المزدوجة في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية من جهة، والقضايا الغربية من جهة أخرى.
فأن تقوم الدنيا ولا تقعد لأيام بكل من فرنسا وأمريكا وأستراليا وألمانيا والنرويج والدنمارك وإسبانيا.. وأن تصم الآذان وتغلق العيون وتطبق الشفاه وتنكمش الأجساد إلى الوراء بمجرد سماع دوي الآلة الحربية العسكرية الصهيونية والغربية بشكل عام فهو نموذج للكيل بمكيالين أو مكاييل متعددة.
لماذا لايتم رسم مثل هذا التضامن الذي جسدته هذه المسيرة التي ترفع فيها النخبة السياسية الغربية شعارات حقوق الانسان، واحترام الأقليات، واحترام الأديان، والتعايش وإشاعة الديمقراطية «المفتعلة». وهي شعارات أظهر الواقع أنها عارية عن الصحة، فارغة على مستوى المضمون، مؤمنة بالشكل، تتقن فن التلاعب باللغة على مستوى اختيار وانتقاء الكلمة.
جاعلة من الآلة الإعلامية الواسعة المتحكمة في أسسها الحركة الصهيونية بأقطابها وأذرعها المنتشرة في مختلف بقاع العالم وأوروبا على الخصوص وسائلها وسلاحها العابر للقارات لتصنع الحدث كما تشاء وأنى تشاء، أمام استهلاك إعلامي عربي نه
م لا يميز الغث من السمين، متواطئ في كثير من تدخلاته، خادما لأجندات سياسية إمبريالية وصهيونية دون أدنى معايير للتمحيص والفلترة.