بعض القضايا الصغيرة التي لا تشكل ظاهرة بالمعنى الاجتماعي العام تأخذ في المغرب طابعا إشكاليا ويتم تضخيمها بما يجعلها في عيون الآخرين ظاهرة خطيرة تقترب من الوباء. وهذا لا يؤدي فقط إلى تضخيم هذه القضايا الصغيرة بل يقود بالنتيجة إلى تقزيم قضايا أكبر بسبب تسليط الأضواء الكثيفة على تلك القضايا الصغيرة. وهكذا يتم خلق مشكلات لا توجد إلا على مستوى التداول الخطابي، بينما يتم حجب مشكلات ذات حضور على مستوى التداول الاجتماعي.
من هذا النوع قضية العنصرية التي أثيرت مؤخرا وتم الإعلان عن القيام بحملة ضدها في المغرب تحت شعار”أنا ماشي عزي”. ومن يصدق مثل هذا الخطاب يعتقد بأن الأفارقة الموجودين بيننا يتعرضون يوميا للإبادة من طرف مجتمع من البيض، وبأن المغاربة شعب عنصري همه الأول والأخير طرد هؤلاء الأفارقة لأنهم سود البشرة، مع أن هذه ليست هي الصورة الحقيقية على الأرض، إلا إذا كان أصحاب الحملة لا يمشون فوقها.
في ساحة باب الأحد بوسط الرباط ينتشر العديد من الباعة المتجولين، الذين يطلق عليهم”الفراشة”، وبين هؤلاء يوجد العديد من الأفارقة الذين يبيعون ويشترون مع المغاربة بكل أريحية وكأنهم أبناء البلد. إنك لا ترى في وجوههم أي أثر للإحساس بالغربة. سألت مغربيا من هؤلاء كان يتحايل على رجال الأمن، فقال:”ممنوع علينا أن ننصب تجارتنا قبل الغروب”، وعندما سألته عن أولئك الأفارقة قال:”هؤلاء لا يكلمهم أحد، إنهم يعرضون تجارتهم في أي مكان وفي أي وقت”، وعندما سألته عن السبب قال:”أنت تعرف، هؤلاء معهم الأمم المتحدة”.
كان ذلك الشاب يدرك ما يقول، والواضح أنه كان هو من يشعر بالغربة، وليس ذلك الإفريقي. بيد أن كلامه كان واضحا أنه موجه إلى المسؤولين لا إلى الأفارقة، فهو ليس ضد حق هؤلاء في ممارسة تجارتهم، بل ضد سياسة المسؤولين الذين يصطنعون ذلك التمييز بينه وبين المهاجر الإفريقي، ويطالب فقط بالاستفادة من نفس التسامح تجاهه.
هذا لا يعني أن العنصرية لم تعد موجودة في المغرب، ولكنها ليست عنصرية على أساس اللون أو البشرة، بل على أساس فئوي أو “طبقي” أو إثني. وإلى هذه العنصرية التي كرستها الثقافة السائدة التي لم توضع لها سياسة تربوية سليمة لمكافحتها، تضاف عنصرية جديدة نامية وسط المجتمع بسبب الليبرالية المتوحشة التي جعلت التفاوت الاجتماعي أكثر اتساعا بأضعاف ما كان كانت عليه في الماضي.
وتكمن المغالطة الجسيمة، في حملة مكافحة العنصرية، في أنها تتهم العنصرية الملونة الموجهة ناحية سود البشرة الوافدين على المغرب، لكنها تغمط المغاربة ذوي البشرة السوداء حقهم، مع أن هؤلاء أيضا سود البشرة. ويوجد هؤلاء في المغرب منذ قرون عدة، فلماذا لم يتم التفكير في إطلاق حملة من أجلهم؟. والجواب أن هذه القضية لم تكن مطروحة من قبل ولم يكن يتم حتى التفكير فيها، فكما اختلطت الأنساب اختلطت الألوان، وللكثير منا آباء أو أجداد أو أمهات وجدات كانوا سودا، وتشكل هذه الأصول المختلطة التركيبة الثقافية والحضارية الموجودة اليوم في المغرب.
وقد تعايش المغاربة على مدار القرون مع هذه التركيبة من دون أي اكتراث، بل اعتبروها جزء من هويتهم. ودلالة ذلك أن عددا من سلاطين المغرب كانوا سود البشرة كالسلطان المولى إسماعيل الذي حكم المغرب قرابة ستين عاما، وشهدت الدولة العلوية في عهده أوج ازدهارها حتى وصل ذلك إلى مسامع أوروبا وملك فرنسا لويس الرابع عشر. بل كان هناك صلحاء سود البشرة أمثال أبي يعزى وأبي جبل يعلى وعبد الله الكوش وكثيرين غيرهم، وهؤلاء لم يقدرهم المغاربة فقط ويعتبروهم صلحاء ، بل استوثقوهم على دينهم وجلسوا أمامهم للتربية، سودا وبيضا، مما يعني أن المغاربة لم يطرحوا أبدا قضية اللون كمشكلة في السياسة أو الاجتماع أو الدين. ولا داعي للقول بأن آدم عليه السلام كان أسود البشرة، وأن أول مؤذن في الإسلام كان أسود، وعندما يذكر المغاربة سيرته اليوم يقولون”سيدنا بلال الحبشي”.