عبد الباري عطوان
بينما يتعهد السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس″، ومن قلب غزة المحاصرة والمحررة، بإعلان النفير وإطلاق انتفاضة ردا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتهويد مدينة القدس، وتأكيده الرواية الإسرائيلية بكونها عاصمة لليهودية العالمية، السياسية والدينية، يخرج علينا رئيس “الشرعية” الفلسطينية محمود عباس بخطاب هزيل مخجل يلخص رده على هذه الإهانة بالانضمام الى مزيد من المنظمات الدولية، ومواصلة التشاور مع “الاشقاء” قبل اتخاذ أي قرارات، وكأنه رئيس مكرونيزيا، وليس منظمة التحرير الفلسطينية.
أمريكا ارادت ان تكون في عهد ترامب اول دولة في العالم تعترف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، وكان لها ما ارادت، ولكنها لا تعرف انها ورئيسها “العنصري” وفرا “الصدمة” التي تحتاجها الامتان العربية والإسلامية للخروج من غيبوبتها، وحالة الهوان والاذلال التي تعيشها.
ترامب ينقل عاصمته من تل ابيب المحتلة الى القدس المحتلة، ويطلق رصاص الرحمة، ليس على رأس عملية السلام المزورة، وانما على رؤوس حلفائه من الحكام العرب ايضا، وفي مصر والسعودية على وجه الخصوص، اللتين ايدتا خطوته هذه مسبقا، وقبل إعلانها حسب وسائل الاعلام الإسرائيلية، والقناة التلفزيونية العاشرة تحديدا، وهذا ما يفسر تأخر ردهما وضعفه.
ترامب لا يريد حلفاء وانما خدما وتابعين، يتعاطى معهم بغطرسة وفوقية، فبعد ان حلب اكثر من 550 مليار دولار في اجتماعه الأول معهم في الرياض (460 مليارا منها من السعودية وحدها، والباقي صفقات أسلحة لقطر والامارات والبحرين)، ها هو يكافئهم، ويرد لهم الجميل، بصفعة تهويد القدس المحتلة.
***
نحن لا نعول على اجتماع مجلس الامن الذي سيعقد غدا لبحث هذه الإهانة الامريكية، وانما على باحات المساجد في اكثر من 56 دولة عربية وإسلامية، التي ستتحول صلاة الجمعة فيها الى ساحات غضب، واطلاق الشعارات المعادية لامريكا وإسرائيل والمطالبة بالثأر.
هناك بعض الأصوات المُحبَطة، والمُحبِطة، التي تنظّر للتطبيع مع إسرائيل، وتعتبرها حليفا موثوقا لم يقتل سعوديا او خليجيا واحدا، وترى فيها صديقا وحليفا، وتتطاول على الفلسطينيين وتعايرهم ببيع ارضهم، هذه الأصوات التي تنشر ثقافة الاستسلام والخنوع، وتشكك في قيمة مظاهرات الغضب هذه، مثلما تشكك بجدوى الانتفاضات، نقول لها، ومن يقف خلفها، ان موجات الغضب هذه هي التي فجرّت انتفاضة الحجارة الأولى، وانتفاضة السلاح الثانية، وحشدت لهزيمة ثلاثة “عدوانات” إسرائيلية على قطاع غزة في اقل من ثلاث سنوات، والحقت الذل والعار بالاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان واجبرته على الانسحاب مهرولا من طرف واحد عام 2000، ومرمغت انفه بالتراب في حرب الأيام الثلاثة والثلاثين في لبنان في تموز (يوليو) عام 2006.
ترامب ما كان يمكن ان يقدم على هذه الخطيئة، او الحماقة، لو كان العراق قويا، وسورية لا تواجه مشروع المؤامرة طوال السنوات السبع الماضية، وليبيا لا تعيش الفوضى والتشرذم، ومصر الرائدة تتسول رغيف خبزها من قوارين (جمع قارون) العصر العربي الحديث، والجزائر تداوي جروح عشريتها السوداء، واليمن تتصدى لعدوان ظالم.
المشروع الأمريكي بتدمير دول المركز العربي، تحت عنوان الديمقراطية وحقوق الانسان، وتكريس إسرائيل القوة الإقليمية العظمى القائدة، هو الذي اوصلنا الى هذا الهوان، وجاءت آخر صفعاته بقرار ترامب الأخير، كمقدمة لصفقة الاستسلام الكبرى، وإقامة الدولة الفلسطينية في سيناء، وتتويج نتنياهو امينا عاما للجامعة العربية “الجديدة”.
ترامب اسقط الأقنعة، واظهر الوجه القبيح لحلفائه العرب، واشعل فتيل حرب دينية، ستكون بلاده وخليفها الإسرائيلي حطبها، لان زمن هيمنة النفط وعوائده على القرار العربي الرسمي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
راهنا دائما على الشعوب العربية والاسلامية، ولم نراهن مطلقا على الأنظمة، ولنا ثقة كبرى فيها، ولا تخدعنا مطلقا بعض “الفقاعات” الزائفة والمضللة هنا وهناك، وعندما يتصدى اشقاؤنا في الخليج لعمليات التطبيع والمروجين له، بشجاعة وجرأة، فهذا يؤكد ان رهاننا في محله، وان هذه الشعوب على طول العالم الإسلامي وعرضه لن تخذل قدسها واقصاها وكنسية قيامتها.
اطمئنكم ان اهل الرباط في فلسطين سيكونون عند حسن ظنكم، ومثلما عهدناهم دائما، أليسوا هم الذين تمترسوا في باحات الاقصى حاملين اكفان شهادتهم، واجبروا نتنياهو على اقتلاع بواباته الإلكترونية والفرار بجلده؟ أليسوا هم الذين اجبروا شارون على الهروب من قطاع غزة تاركا خلفه مستوطناته؟ أليسوا هم الذين قدموا قوافل الشهداء دفاعا عن كرامة الامة وشرفها وعقيدتها على مدى مئة عام من الجهاد والنضال؟
***
اطمئنكم بأن الشعوب العربية، وليس الحكام والحكومات، بألف خير، وستجرف ثورات غضبهم “الحقيقية” كل ادران العفن التي لحقت بالأمة في السنوات السبع العجاف، ويقفون في خندق المقاومة متبنين ثقافتها ومتغنين بشعاراتها.
اعتراف ترامب كان فرصة ذهبية للرئيس عباس وسلطته للتطهر من خطايا أوسلو والتنسيق الأمني المعيب، و23 عاما من المفاوضات المخجلة، ولكنه لم يفعل، ولن يفعل، ويصر على رسم خط نهايته بطريقة مأساوية، ومن المؤلم ان هناك من الملتفين حوله يتهربون من التقاط هذه اللحظة التاريخية، ويزينون له مواقفه المتخاذلة هذه.
نشكر ترامب، وان كان لا يستحق الشكر، لانه اشعل فتيل الصحوة العربية والإسلامية دون ان يقصد، وهي صحوة ستعيد ترتيب أوضاع المنطقة مجددا على أسس جديدة عنوانها المقاومة، وقدم الذخيرة الأقوى للتطرف والتشدد على حساب حلفائه المتخفين خلف لافتة الاعتدال.
سيترحم ترامب وحلفاؤه العرب على أيام “الدولة الإسلامية” وتنظيم “القاعدة” الذي سيمهد انحيازه السافر للعدوان العنصري الإسرائيلي لصعود تنظيمات اكثر خطورة واقوى شكيمة، ستستغل هذه الفرصة التي اتاحها لها للثأر والانتقام.
القدس، وليس ابو ديس، ستظل عاصمة فلسطين، كل فلسطين، ومثلما غير المناضلون في جنوب افريقيا وروديسيا والجزائر الواقع الاستعماري المفروض بالقوة، سيسير الفلسطينيون بدعم اشقائهم العرب والمسلمين على النهج نفسه وسينتصروا.. والأيام بيننا.