عبد اللطيف مجدوب
تأكيد صور الأقمار الاصطناعية
في غسق الليل ، نظر إلى رقعة السماء وكتل السحاب تمرق غير بعيدة عن جهة المشرق . حمل جرابه على كتفه اليمنى ودلف إلى الباب الخلفي ومنه أفضى إلى العراء .. وجعل يتأمل النجوم وهي تتوارى خلف الغيوم حينا لتشع أخرى ، كانت هناك أصداء لعواء الكلاب والذئاب تنتهي إلى مسامعه من بعيد باتجاه كفْر ؛ تنبسط منازله الحجرية في سفح جبل تكسوه ندف الثلوج على مر أيام وأشهر السنة . كان وجهه متلفعا بقطعة بالية من الكوفية الفلسطينية أرسل منها طرفا إلى الخلف ؛ بين الفينة والأخرى كان يعدلها في مهب رياح شتوية قارسة ، وهو يجدّ خطاه نحو الجبل .. وعلى أرض مبتلة تغوص به قدماه مرة تلو أخرى دون أن يبالي بالوحل الذي كان يكسو بُوتَه المطاطي . وبعد لأي وصل إلى صخرة بدت منعزلة قريبة من السفح وكأن الزمن الغابر تقاذفها حتى استوت هناك وسط حشائش برية . احتمى بها من فرط تيارات الصقيع الذي احمرت له أعينه وأوداجه .. حطّ عنه الجراب واستخرج منه أجهزة قياس الكترونية في حجم اليد .. وشرع يدون بعض المقاسات في عمق الأرض قبل أن يحتفظ بعينات من التربة والحصى ونبات المكان على ضوء خافت يدوي . كان في عجلة من أمره غير مبال بدموع عينيه وسيلان أنفه .. من شدة وطأة صفعات الرياح الهوجاء .
ومع طلائع الفجر الأولى وتصاعد أدخنة من فضاء القرية ، قفل عائدا ؛ بين الحين والآخر كان يلتفت ذات اليمين وذات الشمال بنظرات يقظة متوجسة خشية أن يقع في مرمى بصر أحد من الرعاة أو الفلاحين والسوقة الذين اعتادوا النهوض باكرا .. وحتى لا يرتاب أحد في أمره أو النظر في علاقته بالمزياني محمد الذي اصطحبه من بلجيكا كصديق عائلة باسم مسيو “صوبو” الذي فضل منذ عدة أيام الانزواء والانفراد بمسكن قريبا من منزل صديقه المزياني .
عاد إلى منزله وأسرع إلى احتساء قهوة سادة ، وقد اصطلى إلى جانب مدفئة محلية الصنع ، جوار مكتب خشبي مهترئ يحمل حاسوبا جد متطور ؛ كان يقضي جل أوقاته منكبا عليه ، ويحرص عند مغيب شمس كل يوم على تأمل التلال المترامية أمام ناظريه من بعيد وقد اتشحت بلون ذهبي فيما كانت القطعان قافلة إلى مرابضها ؛ يتردد في الفضاء ثغاؤها وخورها .
وعندما عسعس الليل وخلد الجميع إلى السكون ، نهض من فراشه وتوجه إلى منضدته الخشبية شبه العرجاء ليباشر حاسوبه ، وقد استحضر بجانبه أرقاما ورموزا معقدة بالأبجدية الروسية ؛ هي الحصيلة النهائية التي انتهت إليه تحاليله وكشوفاته منذ مدة شهر على عينات متنوعة من سطح المنطقة ، وبعد تعبئتها لم يطل انتظاره كثيرا حتى تلقى مكالمة بهاتف غير مألوف :
– ” .. هيلو … المستر فاشييكي بلوخ .. المعهد الجيولوجي الفضائي .. سعد بمعلوماتك التي أمددتنا بها .. وهي الآن في طور العلاج .. سننتظر التحاقك بالقسم الأكاديمي بموسكو قبل انضمامنا إلى الخلية الجيولوجية الفضائية عند بيتروزافودسك ..”
– ” …شكرا المستر فرانشيشك .. إلى الملتقى …”
في مطار بيتروزافودسك
منذ أسبوع عن مغادرته المغرب ، لوحظ فاشييكي بلوخ على أرضية مطار بيتروزافودسك ؛ يسوق عربة بحقائبه متوجها إلى بوابة خاصة ليجد في استقباله شخصين ، لعلهما كانا موفدين من قبل هيئة خاصة … ظهر ذلك من خلال سيارة تحمل ترقيما ديبلوماسيا أقلتهم نحو طائرة مروحية عسكرية كانت جاثمة هناك على مقربة من المطار . وفي أقل من ساعة من التحليق بمحاذاة البحر رست على سطح الغواصة فلاديمير دريكش ، ترجلوا منها مباشرة إلى سلم السطح ، ومن ثم دلفوا إلى غرفة خاصة استعدادا للولوج إلى بوابة قاعدة الأبحاث الجيولوجية الفضائية ؛ تقع على عمق 7 كلم تحت سطح البحر . أدلى بهويته الإلكترونية قبل أن تنفتح له كوة معدنية صغيرة حملته إلى الداخل حيث وجود حركة دائبة بين مستخدمين بزي خاص ؛ كل انتباههم مشدود إلى شاشات عملاقة تشع برسومات بيانية وأرقام جد معقدة ؛ ترد عليها من أقمار اصطناعية تحوم في الفضاء رصّادة لكافة أنحاء الكرة الأرضية . هرول إليه أحدهم ؛ يبدو أنه كان في انتظاره :
– ” …مرحبا المستر فاشييكي بلوخ ، لقد تلقينا إشارة من الحاسوب المركزي بجهوزية الملف الذي اشتغلت عليه في المغرب قرابة شهر …هيا لنرَ صوره وماذا يحمل من كشوفات ..”
– ” .. نعم مرحبا …” . ارتديا معا بزة واقية في شكل رجال الفضاء قبل أن تنفتح لهما بوابة زجاجية ، ويقف لهما مهندسون كانوا بانتظارهم ، وبعد حين تم الضغط على زر يدوي ، وعلى إثره استضاءت شاشة بعنوان روسي عريض ” نتائج نظرتنا إلى المغرب بإحداثيات 22؛99° ؛33+ 44÷71 ^^°eer بتاريخ 11/01/2017 رقم 33088YYUI0 .”
كانت الصور أشبه ببقع ملونة من الأخضر إلى الرمادي والأصفر ، مصحوبة بإشارات رقمية ورسومات بيانية تتلألأ بعض أرقامها بالأخضر ….
تهلل وجه البروفيسور فرانشيشك والتفت إلى صديقه البروفيسور فاشييكي بلوخ :
– ” .. لم أكن أتوقع هذه النتائج مطلقا وإن كان حدسي يميل إليها قليلا ..”
– ” .. الصور التي التقطت للمنطقة Ait bouazza آيت بوعزا ، توضح أن هناك بركة من مخزون النفط الخام الخفيف يفوق حجمه 4 مليار متر مكعب …”
– ” .. وحتى نسبة الكبريت فيه ضعيفة لا تتجاوز %0,50 مما يؤشر على جودة معتبرة ..”
داخل قصر الكرملين
كان هناك اجتماع طارئ للجنة الطاقة الجوفية والبترول ؛ حضره أحد مستشاري الرئيس الروسي اسلافوندوتش ، إلى جانب بعض خبراء التصنيع وممثلي بعض الشركات الاستثمارية ، وفي ختام الاجتماع صدرت توصية بفتح قنوات المفاوضات مع السلطات المغربية حول إمكانيات استثمار هذا المخزون وتسويقه ، وتم تعيين سيزاخوف موفدا من قبل الكرملين إلى السلطات المغربية .
مفاوضات ماراطونية
حل بالرباط الوفد الروسي المفاوض من خبراء ومستثمرين في مجال الطاقة السائلة ، وكان اللقاء المرتقب مع نظرائهم المغاربة ، وعقب عدة جلسات روتينية لاحظ الوفد الروسي أن اللجنة المغربية لم يكن لديها أي تفويض لتقرر في نقاط جدول الأعمال ؛ فكثيرا ما كان يتعطل سير الجلسات بسبب انتظار صدور الرد من جهات أخرى غير حاضرة ، حتى إن الوفد الروسي أبدى أسفه لغياب الرأي التقريري بين لجان المفاوضات لتنتهي هذه الأخيرة بعد دورات ماراطونية إلى نقطة عالقة جد حساسة ألح عليها الطرف الروسي المفاوض وهي ” الحرص على استثمار %70 من مستخرجات النفط في تطوير كفر آيت بوعزا ، وتحويله إلى مدينة بمرافق نموذجية وبمعايير دولية فضلا عن ربطها بأحدث شبكات الاتصالات والطرق ومطار محلي ”
لكن المفاوض المغربي أبدى تحفظه بخصوص هذه النقطة معتبرا أياها مثار حساسيات داخل التجمعات السكنية بالمغرب … وستكون مطالب ملحة من جهات عديدة كجرادة والحسيمة وتمحضيت وتالسينت وتنغير وبوكراع فضلا عن مناطق أخرى تحتضن عيونا وحمامات لا تستفيد ساكنتها من مداخيل أوراشها سواء في مجال الصيد البحري أو المعادن الجوفية أو آبار المياه الباطنية والسطحية ” … لكن بعد دراسة هذه النقطة “عائدات المشروع على المنطقة” انتهى الطرفان الروسي والمغربي إلى توافقات بالسماح للشركات الروسية بامتلاك نسبة %5 من مداخيل الدولة ؛ في هذه المناطق ذات الموارد الطبيعية ؛ لتتولى إنفاقها في مشاريع ضخمة لصالح ساكنة هذه المناطق ، تحتفظ لنفسها فقط %2 من الأرباح لتغطية نفقات اليد العاملة وتطوير مشاريع التنمية .
الحلول بعين المكان آيت بوعزا
في يوم مشرق جميل ؛ وبينما كان أهالي كفر آيت بوعزا يتأهبون لأخذ طريقهم وسط الشعاب لحضور السوق الأسبوعي ” أحد آيت بوعزا” فوجؤوا بطائرة الهليكوبتر ذات حجم ضخم ترسو عند سفح الجبل ليتم إنزال معدات وأجهزة وكابليات وصناديق وعلب في شبابيك مقفلة ، ولم يمض سوى وقت يسير حتى أعقبتها مروحية ثانية أقلت خبراء ومهندسين من كلى الفريقين روس ومغاربة ، انتحوا مكانا قرب الكفر ، وما هي إلا ساعة أو أقل حتى انخرطوا جميعهم في تركيب آلات وأجهزة ضخمة تشتغل آليا لتوصيل أنابيب وخراطيم وغرسها في باطن الأرض بحركة لولبية ؛ أخذ ضجيجها يتردد صداه في فضاء الكفر ، بينما كان الأهالي بمن فيهم نساء يلتحفن الحايك الموزونا وشباب بجلابيب صوفية ثخينة تنسدل إلى ركابهم . الجميع يحملق ويتابع حركيات المعدات والأجهزة وهديرها غير المألوف لديهم .
احتدت أشغال الحفر مدة قاربت أربع ساعات … وفي لحظة ما صدر دوي عميق خاله الجميع انفجارا لأحدى الأجهزة ، في حين لم يكن سوى ارتطام لمصاصات السوائل والأتربة وهي تقذف بعمود سائل أسود من باطن الأرض إلى الفضاء الخارجي إيذانا بالوصول إلى النفط الدفين .
أخذ السائل ينساب ليهوي إلى الأرض عبر تدفقات كثيفة وخشنة ذات روائح غازية مروعة ؛ لم تطل كثيرا إذ سرعان ما وضع المهندسون أياديهم على مكابس خاصة لتنطفئ شعلة السائل مخلفا بركة صغيرة سوداء بفقاعات ضخمة . وفي أعقابها تهللت الوجوه وتبادل الخبراء والمهندسون والعمال نظرات النصر ، وخلالها تصاعدت أصوات أمازيغية باللكنة الوراينية ” غاسولينا نثامرث إنو ” أو وقود أرضنا . حضر شيوخ وأعيان القبيلة وشرعوا يتهافتون ومنهم من تجرأ فاقترب من قائد المنطقة وصرخ في وجهه باللغة المحلية ” …وحتى هذه النعمة ستؤول إلى جيوبكم ؟! ” …
تقاطرت جموع كثيرة من قبائل بني وراين وأحوازها .. وراح بعضهم يتداول في شأن هذه الثروة وكيف سيكون مصيرها .. وهل سيخلدها إسم “آبار آيت بوعزا” ؟
نقض الاتفاقية
اعتذرت السلطات الرسمية للطرف الروسي بأن الوقت غير ملائم للشروع في تنفيذ بنود الاتفاقية لعوامل سياسية حساسة ، كما صدرت أوامر مركزية بردم الحفر وتسييجها مع إقامة حراسة دائمة على المنطقة ، وتشديد الحصار حول كل الغرباء الذين يحاولون الاقتراب منها أو التقاط صور لها ، مع ترويج شائعات وسط السكان بأن السلطات منهمكة على البحث عن الشركات القادرة على استثمار الحوض الطاقي الذي يرقد عليه كفر آيت بوعزا ، كما تناسلت شائعات أخرى بين الأهالي بوجود أخطار محدقة على الساكنة في حالة وقوع ” انفجارات في جيوب جوفية مع اقتراب فصل الصيف وتحول المنطقة إلى بركان يمكن أن تأتي حممه على الأخضر واليابس …” … حتى إذا كان يوم السوق الأسبوعي فوجئ السوقة ؛ بمن فيهم قبيلة آيت بوعزا بالبراح يطوف بين الخيام المنصوبة والباعة … يقرع طبله مع كل نداء : ” ألا يْلاها الا الله … آسيادنا .. آولاد بوعزا .. راها السلاما فالنجا …ردّو البالْ من الطمع المحال .. الحاضر يبلّغ الغايب … ألا يْلاها الا الله ..”
بيد أن كبار أهالي الكفر عقدوا العزم على ألا يبرحوا أرض أجدادهم حتى ولو تعرضوا لنيران بركان تمحقهم جميعا … مستصدرين لفتوى اعتبروها ميثاقهم القبلي ” أن عائدات أرضهم حق مشروع لهم ” .
بعد مضي بضعة أشهر وبعد أن استنفدت جميع الحيل والمكائد لإفراغ المنطقة من ساكنتها فوجئ هؤلاء ذات صباح بقوات مدنية وعسكرية أخذت ترابض على مشارف الكفر ؛ مستعملة مكبرات الصوت وهي تمرر نداءاتها في خضم نباح كلاب القرية وهي تتحرش بهم : ” ..المخزن كايطْلب منكم تخويوْ … وراه مخصص لكل بيت منكم …3مليون ..عاطيكوم منهنا حتى لغدّا …”
” … المخزن ..بغا مصلحتكم … ما باغيش تعيشو فالخطر …”
لم تلق هذه النداءات ولو أذنا صاغية .. كانت تذهب هباء في الفضاء لا يعقبها سوى عواء الكلاب يختلط بعواء الرياح في أعالي تلك القمم والسفوح … لم تنبس ولو كلمة واحدة بين الشفاه بل كانت لغة النظرات أقوى من كل بيان .. ” الصمود .. الصمود ثم الصمود ولتذهب ملايينهم أدراج الرياح ”
قرار عاجل
رغم التهديدات بتدخل القوات العسكرية لإجلاء الأهالي ، وعلى إثر المواقف الصلبة التي أبداها سكان آيت بوعزا كرجل واحد بالتشبث بأرضهم وحقهم المشروع في ثرواتها … التأم جمع عام مركزي فوق العادة ؛ انتهت أشغاله بالقرار التالي : ” … إن الإقدام على استغلال بركة النفط بآيت بوعزا وبالشروط التي يرغب فيها السكان لمن شأنه أن يوقع السلطات في احتكاكات غير مأمونة العواقب مع باقي المناطق في كل من جرادة وتالسينت والحسيمة وتنغير وورزازات .. وبوكراع وعين الرحامنة وجهات أخرى عديدة ، ولو أذعنّا لمطالب هؤلاء جميعا فسنتكبد خسائر بمئات المليارات من الدولارات .. فالأولى ألا نثير غضب النحل !! “