المتتبع الموضوعي لورش إصلاح منظومة العدالة في بلادنا لا يمكنه إلا أن يعترف بالتراكم الإيجابي الحاصل في مسار الإصلاح
فهناك أولا المقتضيات الدستورية الجديدة التي تنص على أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية كسلطة مستقلة قائمة الذات عن السلطتين التشريعية والتنفيذية٬ وعلى إحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية كمؤسسة دستورية يرأسها الملك تسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، وتخويل الرئيس الأول لمحكمة النقض مهام الرئيس المنتدب، والتنصيص على حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة ودور القضاء في حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم.
وهناك، ثانيا، التوصل إلى ميثاق عام حول إصلاح منظومة العدالة الذي جاء تتويجا لمسار تشاركي ولحوار وطني واسع توج بالاستقبال الملكي الذي حظي به أعضاء اللجنة العليا للحوار.
وهناك، ثالثا، المتابعة الدقيقة من طرف العديد من المنظمات الحقوقية والفعاليات المدنية ولمكونات الجسم القضائي وللعديد من المواطنين لهذا الحوار بالاقتراح والنقد والنقاش الواسع، بهدف توطيد استقلال السلطة القضائية الفعلي عن كافة المؤثرات الخارجية.
رابعا، لقد أسفر هذا المسار عن بلورة مسودتين أوليتين همتا، على الخصوص، مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة ومشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهما مسودتان مازالتا في طور النقاش، وحسب المعطيات المؤكدة، فإن وزارة العدل والحريات لم تغلق باب الحوار الذي مازال مفتوحا، ولذلك فإن مقتضيات الإنصاف والعدالة، التي تلزمنا بالدفاع عن الحق في التظاهر والوقوف في وجه أي مس بهذا الحق، هي المقتضيات نفسها التي تجعلنا نتشكك في البواعث الحقيقية للاحتجاج والتظاهر حينما يكون باب الحوار مفتوحا. ومن حق البعض أن يتشكك أكثر حينما تكون الجهة الداعية إلى الحوار هي الوزارة الوصية، وحينما تكون الجهة الرافضة للحوار هي الجهة المصرة على التظاهر والاحتجاج…
طبعا، ليس هناك مجال للشك بأن بواعث العديد من القضاة الشباب، أعضاء نادي قضاة المغرب، هي بواعث شريفة، لكن يمكن أن نلاحظ بسهولة انزلاق العديد من الخطابات الصادرة عن بعضهم إلى مستويات ذات طبيعة سياسوية وصدامية تؤثر في صورة القاضي المستقل، وتمس بواجب التحفظ الملزم للقضاة…
خامسا، إن القراءة المتفحصة للمسودات الأولية المطروحة تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أننا أمام مقتضيات متقدمة من شأنها الإسهام في ضمان استقلالية السلطة القضائية والرقي بالوضعية المهنية للقضاة، ولسنا أمام تراجعات كما يقول البعض بتسرع، لكن دون ادعاء تحقيق الكمال في هذا الباب، وهو ما يتطلب التفاعل الإيجابي مع المسودات المطروحة، والعمل على تطويرها لتستجيب للمعايير النموذجية المطلوبة، وذلك من خلال الحوار المباشر مع الجهة التي أسند إليها المشرع الدستوري صياغة مشاريع القوانين والقوانين التنظيمية، أو من خلال آليات الترافع العقلانية مع المؤسسات الدستورية المعنية التي تمثل المسالك الضرورية للتشريع (الفرق النيابية أغلبية ومعارضة، رئاسة الحكومة، الملك بصفته رئيس المجلس الوزاري…)..
سادسا، إن الجميع مطالب بالارتقاء إلى مستوى اللحظة السياسية التي يتطلبها مسار الإصلاح، الذي لا يمكن أن يكون إلا تراكميا تدرجيا وتوافقيا على أرضية الحوار الهادئ بين أطراف عاقلة ومسؤولة تعلي من مصلحة الوطن وتجعلها فوق كل الاعتبارات، مع الإدراك التام بأن المواطن هو المتضرر الأول من تدخل العوامل الخارجية وتأثيرها في استقلالية ونزاهة القاضي، وهو المتضرر الأول من أي تشويش على مسار الإصلاح، وانعكاساته التي لا تخفى على أحد.
وأخيرا، إن المستفيد من التوتر الحاصل بين الحكومة، التي أبانت عن إرادة واضحة للدفاع عن استقلال القضاة دفعت وزير العدل والحريات إلى التهديد بمغادرة منصبه الحكومي إذا لم تف الحكومة بمطلب الزيادة في أجور القضاة، وهو أسفر عن زيادة غير مسبوقة في أجورهم، ما يدل على حسن نية الحكومة، وبين جمعية مهنية فتية للقضاة تمثل أمل العديدين في الإصلاح والتغيير داخل جسم قضائي مريض.. إن المستفيد الأول من هذا التوتر هم أعداء الإصلاح الذين يزيدون في صب الزيت على النار، ويساهمون في تحريف مسار الإصلاح عن طريقه الحقيقي.
والغريب أن بعضهم يتقمص في بعض الأحيان خطاب الدفاع عن الإصلاح..
من هؤلاء وجب الحذر.. والله أعلم.