عماد كزوط ـ خرج المجلس العلمي الأعلى عن صمته بعد صمت دام لما يزيد عن شهر، من تصريح الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي “إدريس لشكر”، في قضية أحكام الإرث، مؤكدا أنه “لا اجتهاد مع وجود النص كما هو مقرر في القاعدة الأصولية الفقهية عند علماء الشريعة” مستدلا بنصوص دينية من القرآن والسنة، منها قوله تعالى “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”..
أمام هذا الموقف الثابت للمجلس العلمي الأعلى الذي لا يريد أن يفك الرِّبَاط عن المذاهب الفقهية الأربع، يقر الفقيه المجدد جمال البنا على خلاف هاته المذاهب في جملتها، أن الإسلام جاء في عمقه خدمة للمصلحة العليا للمسلميين جميعا ولا يمكن إطلاقا معارضتها، و ضمن هذا السياق قد يتساءل متسائل قائلا:
يمكن أن نسلم بأن الاسلام فعلا لا يمكنه أن يعارض مصلحة المسلميين، إلا أنه ماذا يمكننا أن نقول في الآية الصريحة “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”؟
نازلة تجميد الآية القرآنية الصريحة
يجيب البنا ببساطة من خلال كتابه “المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء”: أن الشروط تتغير والظروف تتبذل، وانسجاما مع خصوصية مرحلة ما وشروطها، جَمَّدَ الصحابي الجليل عمر ابن الخطاب مجموعة من الآيات الكريمة أبرزها أية حَدْ قطع يد السارق، مع أنه ليس هناك أية قرآنية أكثر صراحة من هذه الآية، وذلك مراعاة لظروف المجاعة التي ألقت بضلالها على المسلميين في تلك المرحلة، على اعتبار أن عمر ابن الخطاب كان واعيا تمام الوعي بأن الله تعالى لا يمكنه ان يريد بعباده الهلاك، يضيف جمال البنا.
و اذا كان عمر ابن الخطاب قد قام بتجميد إحدى الآيات الصريحة مثل قطع يد السارق مراعاة لمصلحة المسلميين، ألا يَحِقُّ لفقهاء العصر الراهن بالاجتهاد في قضية الإرث على منوال عمر ابن الخطاب؟ أم يمكن اعتبار هؤلاء الفقهاء أكثر تضلعا فقهيا وورعا في الدين من عمر ابن الخطاب رضي الله عنه؟
الزمزمي: لا يمكن الخروج على النص
الداعية عبد الباري الزمزمي يرى في تصريح لـ”لإنصاف”، أن هناك فرق بين الحالتين، فمسألة تجميد حد السرقة كان فقط لفترة محددة، مسترسلا في السياق ذاته، بأن الفترة التي جمد فيها عمر ابن الخطاب هذا الحد كانت فترة المجاعة، وبالتالي لا يمكن أن يطبق الحد في هذه الحالة، على اعتبار أن فعل السرقة في هذه الوضعية له ما يبرره، وذلك لأن السارق لا يقوم بعملية السرقة إلا بدافع الجوع، بهذا لا يمكن أن يطبق الحد على السارق حسب قول الزمزمي.
يمكن الخروج على النص
يؤكد الفقيه المجدد جمال البنا، أن وضعية المرأة زمن نزول القرآن ليست هي ذاتها في الوقت الراهن، بحيث في السابق كانت المراة تَنْوَجِدُ في البيت والرجل يذهب إلى العمل، بمعنى أن الرجل هو من يتكلف بمصاريف البيت والمرأة معا، مسترسلا في السياق ذاته، أنه حينما قسم الله الإرث بين الرجل والمرأة زمن الرسول، كان تقسيما عادلا، بينما في الوقت الراهن أن المرأة أصبحت مثلها مثل الرجل هي الأخرى تخرج للعمل، كما أنها في حالات كثيرة تتكفل لوحدها بإعالة أسرتها في حضور الزوج، وعليه فما تكلف المرأة لوحدها بإعالة أسرتها إلا و خَلْفَهُ ضرورة ملحة كما دفعت ضرورة السارق بالقيام بعملية السرقة يضيف البنا، مختتما قوله: فبمنطق القياس يمكن أن نسقط تجميد قطع يد السارق على قضية الإرث، باعتبارهما ينطقان من نفس الأساس.
على هذا الأساس يدعو المفكر المغربي عابد الجابري إلى مراجعة جادة للمنظومة الفقهية في مستوى الأصول حتى يتجاوز العقل الفقهي الإسلامي محطة المراوحة، إذ يرجع الجابري طغيان منهج الحفظ وانتشار أسلوب التلقين، دون تحليل أو تعليل سبب كل ذلك، مضيفا أن الفقهاء الأوائل أفتوا واجتهدوا انطلاقا من ملابسات وظروف ليست بنفس الظروف التي نحياها، مختتما قوله “إن المطلوب اليوم في ميدان الشريعة هو إعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة انطلاقا من مقدمات جديدة ومقاصد معاصرة، إن المطلوب هو تجديد ينطلق، لا من مجرد استئناف الاجتهاد في الفروع، بل من إعادة تأصيل الأصول”.
وهو نفس الطرح الذي دافع عنه طيلة حياته المفكر الجزائري الراحل محمد أركون، الذي يرى أن المسلمين لا يمكنهم أن يدخلوا زمن الحداثة ما لم يعيدوا قراءة التراث الإسلامي، مؤكدا أركون على أن كل المسائل الفقهية والقواعد الدينية التي وضعها الفقهاء مجرد تنزيل لمعنى أحادي ووحيد للقرآن، الذي هو حمال اوجه ويتمتع بمعاني كبيرة وعديدة، وأن هذا التقعيد يجيب على مرحلة تاريخية في حياة المسلمين، مقسما العهد الإسلامي إلى قسمين العهد الكلاسيكي ويبتدئ بوفاة الرسول إلى وفاة ابن خلدون ثم العهد “السكولاستيكي” ويبدأ بوفاة ابن خلدون إلى اليوم، وهو العهد الذي توقف فيه الإجتهاد والتفكير، وأصبح العقل الإسلامي بحسب أركون مجرد عقل تكراري اجترراري، ينفعل ضد كل اجتهاد أو مجرد إبداء رأي تجاه ما سطره الأولون.