بالونات الاختبار في السياسة يحيى بن الوليد في المقال السابق عالجنا جانب من موضوع “التكرار السياسي”، وحتى نواصل الموضوع نفسه، ولولا ما حصل في العالم العربي ككل، ومن رجـَّة سياسية بلغ بعضها حد الثورات السياسية، لكان المغرب قاب قوسين من استنساخ تجربة “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” (“الفيدك”) التي تكشـَّفت قبل شهرين فقط من أول انتخابات تشريعية بالمغرب العام 1963.
ولعبة “الأصل والنسخة” ما جعل البعض يدعو إلى “تحيين” بعض الأطروحات السياسية التي اشتغلت على المرحلة السابقة وفي مقدمـِّها أطروحة جون واتربوري حول “أمير المؤمنين” وفي إطار من محور “الملكية والنخبة السياسية المغربية” (1970) جنبا إلى جنب أطروحة ريمو لوفو المتضمنة في كتابه “الفلاح المغربي حامي العرش” (1976)، وذلك من خلال تسمية أو كليشيه “المخزن يعيد إنتاج ذاته كاريكاتوريا”.
فالبرورتريه الذي أعده المؤرخ الفرنسي حول كديرة (وقد استحضرناه في البحث السابق “النسق السياسي الانقسامي بالمغرب”) رأى البعض أنه مناسب لإسقاطه على “صديق الملك الجديد عالي الهمة”. وكان هذا الأخير وراء تأسيس حزب “الأصالة والمعاصرة” الذي خطا خطوات كبيرة على مستوى الاستحواذ على اللعبة السياسية، بل وكاد أن يسوّي بين الأحزاب السياسية… لولا هتافات حركة 20 فبراير وشعاراتها التي أحرجت النظام ذاته الذي أدرك ــ وتاريخيا وبنيويا ــ عدم جدوى تصدَّر “رموز الفساد السياسي” للمشهد. وحتى في المحطات التي حرصت فيها الدولة على التصالح مع ذاتها وبما يفيد اعتقادها في جدوى “تداول السلطة” فإنها لم تفارق “استراتيجيا التكرار”.
وكان الراحل محمد عابد الجابري (وقد سلفت الإشارة إليه)، وفي السياق الذي لا يفارق موضوع “التكرار السياسي”، قد لفت الانتباه، وفي لحظة الإعلان عن تولي الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي رئاسة الحكومة (04 فبراير 1998)، إلى أن المغاربة لأول مرة طرحوا سؤال “هل سينجح الوزير الأول في مهامه؟”. غير أن ما حصل للرجل، وللحزب بعامة، وحين تم تعيين رئيس تكنوقراطي على رأس الحكومة (09 أكتوبر 2002)، أعاد إلى الأذهان ما كان قد حصل لعبد الله إبراهيم حين تمت إقالته في مايو 1960. ونحن الآن لا نرى في الإقالة الأخيرة مجرد “قمع المقاومين ومؤامرة تصفية الاتحاد” فقط، وإنما تصفية لـ”توجه سياسي مضاد”.
تصفية حققت أهدافها، وجعلت المغرب في حال من “النزيف السياسي” الذي نعيش، الآن، أبشع تجلياته الوخيمة. كان المخطط هو الإسهام في إنجاح “انتقال” السلطة بشكل سلس. وحتى بالنسبة لحكومة عبد الإله بنكيران، وسواء في نسختها الأولى (25 نوفمبر 2011) أو الثانية (10 أكتوبر 2013)، فإن معطى التكرار يظل باديا وعلى النحو الذي عمـّق أكثر من نفوذ جنرال التكرار؛ ومما جعل البعض ينظر إليها باعتبارها الأسوأ في حكومات تاريخ المغرب الحديث. وكما لخص أحد المحللين والمراقبين، وبدقة ملحوظة، “لقد حصل النظام على حصة الأسد في الحكومة المخزنية الجديدة، 22 وزيرا “مستقلا” ومتحزبا محسوبين عليه من بين 39 وزيرا، مما يجعلنا نتساءل: أين ثورة صناديق الاقتراع وأين التنزيل الديمقراطي للدستور الممنوح الذي يتبجح به حزب العدالة والتنمية؟”.
فنحن كما قال محمد العمري (أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب)، في مقال له حول ما يمكن نعته من جهتنا بـ”السيرك السياسي” بالمغرب، “أمام “خَلق جديد” ليست له خبرة التكنوقراط وحيادهم وتحفظهم وتكتمهم، ولا انضباط السياسيين ومسؤوليتهم أمام أجهزتهم”. لقد حصل، وهذا هو الأفظع، انقلاب مقصود على “الهوية الاجتماعية” التي كانت في أساس وصول الإسلامويين إلى “التسيير الحكومي” في أكثر من بلد عربي. ولا يبدو نشازا أن يكون الحزب الأخير قد دخل بدوره على “مخطط التصفية وسرقة الثورات العربية” التي انطلقت أواخر العام 2010. وحتى الآن يبدو أننا ركـَّزنا على وقائع دون سواها، لأنها لا تزال تمثــِّل “مركز الثقل” (والثقل، هنا، معكوسا) في التاريخ السياسي للمغرب الحديث أو لأنها لا تزال “تلوح كالوشم في ظاهر اليد” إذا جاز أن نوظـِّف كلام الشاعر العربي القديم.
وكما يبدو جليا أننا ركـَّزنا فقط على التكرار السياسي ومدى فشل السياسي في التصدي لهذا التكرار الكامن في بنية الدولة وأجهزتها التسلطية في إطار من استراتيجيا التكرار عوضا من الانحدار إلى مستوى الصفر هناك. غير أنه ثمة تكرار فشل من نوع آخر هو فشل “المثقف الحداثي” في التصدي للمشكل ذاته.
فهذا الأخير بدوره معني بالموضوع… ولا من ناحية التعاطي النظري أو البحثي للموضوع فقط، وإنما من ناحية التحقق الميداني أيضا وفي إطار من الانخراط في “المواجهة” و”خيال المواجهة”. ومعنى ذلك أن هذا الأخير بدوره أسهم في تمكين “التكرار السياسي”، من التبلور والتجذر، على صعيد الواقع السياسي… فيما “معدّات الضغط السياسي” أشبه بـ”بالونات الاختبار” في “ساحة السياسة”.