لا يستطيع المرء أن يكتم شعوره بالاستهجان والسخط وهو يتابع الأخبار والتقارير التى تطوف أنحاء العالم معبرة عن الصدمة والدهشة إزاء ممارسات جماعة «بوكو حرام» فى نيجيريا. حتى إذا قيل انهم يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية فإنه يظل من غير المفهوم أن يكون لذلك الهدف علاقة بخطف أكثر من مائتى فتاة من إحدى مدارس شرق البلاد. والمطالبة بمقايضتهن بعناصر للجماعة تحتجزهم السلطة.
وإذ يرفضهم المرء وهو مغمض العينين. ويتضامن مع الحملة العالمية لإطلاق سراح الفتيات المخطوفات، فإنه لا يعرف ما إذا كان عليه ان يكرههم فقط، أم ان يرثى لبؤس حالهم أيضا. ذلك ان الجماعة التى تأسست منذ عشر سنوات لم تأت من فراغ، وانما هى حصيلة تفاعلات وتراكمات عميقة متعددة فى المجتمع النيجيرى المركب الذى تختلط فيه الديانات والأعراق والمذاهب. ذلك ان سكان نيجيريا أكثر من 145 مليون نسمة، نسبة المسلمين فيه تتجاوز 50٪، وهؤلاء يتركزون فى الولايات المتحدة، فى حين ان أغلب الولايات الشمالية فى الجنوب. وفى الشمال شيعة وبعض الأحمدية، وفى الجنوب وثنيون أيضا. والصراع فى ذلك البلد الغنى بالنفط دائم ومتفاقم بين قبائل الهاوسا والفولانى ذات الأغلبية المسلمة، واليوريا التى تنتشر فيها المسيحية. وهذا الصراع يدور حول السلطة والثروة حينا، وبين الأعراق فى حين آخر، وبين اتباع الديانات المختلفة فى أحيان كثيرة، وبحكم وجود النفط فى البلاد فإن ذلك استدعى وجود تمثيل للعديد من الشركات الغربية الكبرى، البريطانية والأمريكية والفرنسية والإيطالية، وهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن الصراع يوما ما، فضلا عن ان الكلام متواتر عن وجود للموساد الإسرائيلى هناك (لاحظ أن إسرائيل أعلنت عن استعدادها للمساعدة فى تحرير الفتيات المخطوفات).
بوكو حرام ومعناها باللغة السواحيلية ان التعليم الأجنبى محرم شرعا، (بالمناسبة هذا الموقف ليس جديدا تماما لأن الفكرة سبق ان اطلقها بعض الفقهاء المغاربة أثناء الاحتلال الفرنسى، واعتبروها من قبيل مقاومة رفض ثقافة المستعمر وتحدى فكرة الغزو الثقافى) وإذ دعت الجماعة منذ انطلاقها إلى رفض التغريب والمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، فإن ذلك أثار حفيظة الأجهزة الأمنية، التى قررت حظرها وقامت بملاحقة مؤسسها محمد يوسف ومعاونيه، ولكن المؤسس الذى كان يعمل مدرسا هرب إلى السعودية وأمضى هناك بعض الوقت، ثم عاد إلى بلاده وقد تحول إلى السلفية، وغير اسم جماعته التى أصبحت جماعة أهل السنة والدعوة والجهاد، إلا أن الاسم القديم ظل لصيقا بها، حيث اشاعته وسائل الإعلام بعدما عممته الأجهزة الأمنية. اصطدمت الجماعة مع الشرطة والجيش. وأسفر الصدام الذى وقع عام 2009 عن قتل مؤسسها محمد يوسف وتصفية أكثر من 150 شخصا من أعوانه ومؤيديه. (قناة الجزيرة بثت فى عام 2010 شريطا تسجيليا وثق المذبحة) استمر الصدام وبلغ ذروته فى عام 2013 حين قامت الشرطة باعتقال زوجات قادة الجماعة وأطفالهم. وهو ما انتقدته آنذاك منظمة هيومان رايتس ووتش. الخلاصة ان السنوات الأخيرة شهدت سلسلة من المواجهات المسلحة بين الجماعة من ناحية وأجهزة الشرطة من ناحية ثانية وقد انضمت إلى الأخيرة مجموعات من المتعصبين، الأمر الذى أسهم فى تأجيج الصراع وتوسيع نطاقه، وحوَّله إلى شىء قريب من الحرب الأهلية. فالشرطة والجيش ومعهما المتعصبون لم يتوقفوا عن مداهمة قرى المسلمين والانتقام منهم، وجماعة بوكوحرام ردت الانتقام بمثله واستهدفت مراكز الشرطة والجيش ومراكز الحكومة وحتى السكة الحديد.
الخلاصة ان حادث خطف الفتيات هو حلقة فى سلسلة المواجهات الدامية التى تشهدها نيجيريا وفشلت السلطة المركزية فى ايقافها منذ عشر سنوات على الأقل. وكان للحادث الأخير دويه لأن الذى قامت به جماعة إرهابية من المسلمين، إضافة إلى كون ضحايا من تلميذات المدارس اللاتى تحدث رئيس الجماعة أبوبكر شيكاو عن بيعهن إذا لم تتم مبادلتهن بسجناء للجماعة لدى السلطة. وقد لعبت وسائل الإعلام دورا بارزا فى تعميم القصة ولفت نظر الكافة إليها.
لدى ملاحظتان على القصة ألخصهما فيما يلى:
* ان تركيبة بوكو حرام لا تختلف كثيرا عن خلفية حركة طالبان الأفغانية، فعناصرها من طلاب المدارس الدينية الهزيلة التى تلقن الأجيال الجديدة ثقافة إسلامية هزيلة ومشوهة تصدِّر للمجتمع تدينا منقوصا وخطرا، الأمر الذى يدين تقصير المنارات الإسلامية (الأزهر وأمثاله) فى التبشير بحقائق الإسلام وترشيد الداعين إليه خصوصا فى مناطق الأطراف بآسيا وأفريقيا.
* إننا ونحن نرفض خطف الفتيات وندينه بأعلى صوت، لسنا على ثقة من أن الحملة العالمية التى تدافع عنهن الآن كان يمكن ان تنطلق لوان الضحايا كن من بنات المسلمين. يؤيد ذلك الشك أن مسلمى أفريقيا الوسطى يتعرضون للإبادة هذه الأيام ــ ليس بعيدا عن نيجيريا ــ لكننا لم نشهد تحركا دوليا مماثلا لإغاثتهم. والحاصل فى أفريقيا الوسطى له نظيره فى ميانمار وفى الصين وأخيرا فى الهند. وليس بعيدا عن أذهاننا ما حدث فى فض اعتصامى رابعة والنهضة. إذ فى كل تلك المشاهد سالت دماء المسلمين غزيرة ووقف المجتمع الدولى مستغبيا وصامتا. اننا نقف معهم فيما هو إنسانى، لكنهم لم يعترفوا بإنسانيتنا بعد.