في التقرير الأخير للمندوبية السامية للتخطيط٬ برزت مؤشرات مقلقة تترجم مخاوف الأسر المغربية من المستقبل٬ وهي انعطافة اجتماعية تنضاف إلى مؤشرات أخرى سابقة تؤكد أن خطاب الطمأنة الذي تسلكه الحكومة لم يجد طريقه إلى قلوب الأغلبية. ووفق تلك المؤشرات٬ فإن الأغلبية الساحقة تحمل تصورا متشائما للمقبل من الأيام٬ وهذا لا يعود فقط إلى سياسة الحكومة التقشفية، ولكن أيضا للخطاب السائد سواء من قبل الأغلبية الحكومية أو المعارضة، والذي خرج عن كل الأنماط المتداولة٬ بحيث أصبح التهجم والتخوين لغة الخطاب الوحيدة بين الطرفين.
وهكذا انحدر منسوب ثقة الأسر المغربية في قضاياها الاجتماعية والاقتصادية٬ وهو انحدار يجد امتداده في منسوب الثقة في الحياة العامة بشكل عام. وسواء تعلق الأمر بالبطالة أو المستوى المعيشي٬ فإن توقعات الأسر لم تخرج عن دائرة التدبير اليومي المضني دون القدرة على تجاوزه نحو التخطيط للمستقبل. وإذا كانت الأرقام تشير إلى أن خمسة في المائة فقط من الأسر تستطيع ادخار القرش الأبيض لليوم الأسود٬ فإن نحو 37 في المائة من العائلات المغربية لا تعيش سوى بالاستدانة. وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي أسرة٬ أي أن تعيش خارج حدود ميزانيتها٬ مما يدخلها في دوامة من القروض تنتج عنها مآسي في كثير من الأحيان.
وبحسب الأرقام التي نشرتها المندوبية٬ فإن 85 في المائة من الأسر المغربية غير قادرة على الادخار٬ وهي بالكاد تواجه يومياتها الصعبة وسط تضخم يرتقب أن يرتفع في ظل سياسة الأجور الجديدة. فقد أكد نحو تسعين في المائة من المغاربة أنهم باتوا متشائمين إزاء إمكانية مواجهة الأسعار المرتفعة في الأسواق والمتاجر٬ وأصبحوا غير قادرين على «ملء القفة»، فبالأحرى الادخار.
ثم هنالك مشترك بين الأسر يجعلها خائفة على مستقبل أبنائها، في ظل بطالة مرتفعة تواجه انسدادا في الأفق٬ وهنا أيضا يعتقد أكثر من سبعة وسبعين في المائة من العائلات المغربية، أن البطالة سترتفع خلال العام المقبل٬ أي أن مصير أبنائهم لن يراوح مكانه، سواء بالاحتجاج أمام قبة البرلمان أو بالبحث عن فرص شغل غير موجودة أصلا. وهي النقطة التي ألحت عليها كثيرا مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد خلال زيارتها للمغرب٬ حيث جعلتها من الشروط الخمسة لتمديد خط الائتمان الممنوح للحكومة٬ والذي ينتهي العمل به في غشت المقبل. لكن الشروط الأربعة الأخرى لا تقل أهمية إذ ترتبط بإصلاح التعليم وخدمات الصحة وترشيد الدعم العمومي للمواد الاستهلاكية، ضمن ما يعرف بإصلاح المقاصة عدا عن إصلاح صناديق التقاعد.
صحيح أن ثمة إكراهات اقتصادية صعبة يواجهها المغرب بعلاقة مع الأزمة الاقتصادية العالمية، لكن خطاب الساسة لا يساعد بدوره في إشاعة الاطمئنان حتى في حدوده النفسية. وقد تحولت ملاسنات المعارضة والحكومة إلى عائق أمام البحث المشترك عن حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تتربص بالمغاربة. فالشروط الخمسة التي وضعتها لاغارد لتمديد الخط الائتماني تتطلب ميثاقا مشتركا بين الأغلبية والمعارضة، يخرج التعليم والصحة من الحالة السريرية التي يرفضان الخروج منها. ومعروف أن الاختبارات المفصلية الكبرى في حياة الدول تحتم اللجوء إلى التوافق،كلما تعلق الأمر بإصلاح التعليم والقضاء والاقتصاد. وهذا لا يعني بالضرورة تقديم تنازلات في الصراع الدائر بين الحكومة والمعارضة. ولكن اللحظة السياسية تتطلب أن ترتقي الممارسات إلى مستوى النضج الذي يتم فيه الاحتكام إلى العقل وليس لردود الأفعال.
وبالنظر إلى الهوة التي باتت تفرق بين الأغلبية والمعارضة، فإن هذا التوافق يبدو أقرب إلى تدريب نفسي يحتم نبذ الأنانية واحتكار الحقيقة. فانخفاض مؤشر الثقة لدى الأسر لن يبقى في حدوده الاجتماعية والاقتصادية، ولكنه سينسحب إلى النظرة للسياسة، لأن ما يجذب الرأي العام إلى مربع المشاركة في صنع القرار السياسي عبر صناديق الاقتراع، هو الثقة في أن ما يفعله بصوته لن يضيع هدرا. أما إذا تحولت نتائج الانتخابات لأرقام بلا دلالات، ولا انعكاس على المعيش اليومي للمواطنين، فالأرجح أن رداء التشاؤم سيتسع ليلقي ظلالا على الخيار الديمقراطي. فالناس لا يقبلون على المشاركة إلا عند تعمق الشعور بأن ثمار الديمقراطية ستنزل من برجها العاجي ومن تنظيرها الأكاديمي، لتمشي على الأرض في شكل إصلاحات يعاينها الإنسان في مدينته وحيه وأقرب إدارة إليه. وما عدا ذلك يدفع إلى زيادة منسوب التشاؤم في بئر عميقة بلا قاع.