هي أحكام كان يجري بها العمل كذلك في الجاهلية، كما ذكر الإمام الشاطبي الأندلسي، والإسلام اقتصر على تبني الأخذ بها… ثم إنها أحكام عملية مرتبطة بالبنية القبائلية والاقتصادية التي ميّزت واقع المجتمع العربي لحظة نزول الرسالة.
– هل تستطيع أن توضح كلامك؟
سألني مستغربا.
– كلامي يجد توضيحه في سبب نزول الآية التي منحت الأنثى نصيبها في الإرث في وقت لم تكن تأخذ فيه شيئا؛ فبعض الأحناف، وهم طبقة كانت تعيش في الفترة التي سبقت نزول الإسلام بقليل وكانت تنادي بالرجوع إلى ملة إبراهيم التوحيدية، كانوا ينادون كذلك بمنح المرأة نصف نصيب الرجل من الإرث إنصافا لها، وكانوا فوق ذلك يطبقونه على أنفسهم. أما باقي المجتمع، فكان يمتنع عن تمكينها من أي حق مثلما كان يمتنع أيضا عن تمكين الأطفال الصغار سواء كانوا بنينا أو بنات من ذلك.. هذا هو السبب الذي جعل امرأة تستنجد بالرسول الكريم، جاءت إليه تبحث معه حلا مع أبناء عم زوجها المتوفى الذين استولوا على كل ما تركه أخوهم، لتجد هذه المرأة وبناتها فجأة أنفسهن عرضة للتشرد والفقر.. وعندما استدعاهن النبي لاستفسارهن عن الأمر، كان جوابهن يعبر عن واقع يفرض نفسه؛ إلى درجة أن النبي بدا كما لو أنه اقتنع بحجتهن… «إنهن لا يركبن الخيل ولا يحزن الغنيمة ولا يصدن عدوا». بمعنى أنهن لا يساهمن في إنتاج أو جلب الثروة أو في الدفاع عنها إن حدث هجوم عليها من قبل إحدى القبائل الأخرى المتربصة، هن فقط مستهلكات غير منتجات، ومنحهن نصيبا فيما ترك أخوهن يشكل استنزافا ماديا لثروة القبيلة وممتلكاتها، إذ من المحتمل أن يتزوجن من أشخاص ينتمون إلى قبائل أخرى مناوئة.. هل تلاحظ كيف أن البنية القبائلية المتصارعة التي طبعت المشهد المجتمعي العربي لحظة نزول الرسالة هي التي كانت تفرض أكثر من أي شيء آخر ألا تأخذ المرأة أي نصيب؟
– لكن الإسلام أنصفها عندما منحها نصيبا معينا من الإرث، أليس كذلك؟
– أكيد، لقد كانت هذه الخطوة بمثابة ثورة حقيقية على القيم والعادات السائدة آنذاك، إلى درجة أن الكثيرين لم يرقهم التقسيم الجديد الذي جاء به الوحي، الذي كان في الواقع ثورة على المجتمع العربي الذكوري الذي لم يكن يعترف للمرأة بأي حق.
– إذن، الآية لا تحتاج لأي مناقشة؟
– سأكون واقعيا وصريحا معك، أحيانا يطرح هذا التقسيم مشاكل اجتماعية معقدة.. أتحدث، هنا، عن حالة الزوجة التي يتوفى عنها زوجها ويترك لها منزلا وحيدا يأويها وبناتها مثلا، ثم يأتي إخوان للزوج الميت أو أبناء عمه يريدون نصيبهم فيما تبقى بعد ثلثي البنات وثُمن الأم. وهنا، عادة تلجأ المحكمة إلى بيع المنزل كله بواسطة المزاد العلني حتى يستوفي باقي الورثة نصيبهم المالي.. لنفترض أن الميت هو أنت، هل تحب أن تعرض استقرار عائلتك التي عاشت طويلا بهذا المنزل؟ هل تعتقد أنهم سيجدون منزلا آخر بالمواصفات نفسها في حالة بيعه؟ اُنظر في عينيّ جيدا وأجبني بصراحة..
– كأنك تدعو إلى إلغاء العمل بآية صريحة من القرآن الكريم، أنت تناقش حكما إلهيا، إذن؟
– فقط أردتُ أن أطرح عليك حالة واقعية لا يريد أحد إثارتها للنقاش أو التأمل في تبعاتها الاجتماعية؛ لكنك لم تجبني..
– ولكنه شرع الله لا يمكن أن نسمح بتجاوزه… ثم إنها أحكام صريحة يجب القبول بها كما هي..
– إذا كانت هذه أحكاما صريحة، فما الفرق بينها وبين الحكم الصريح الذي ألغى الخليفة عمر بن الخطاب العمل به نهائيا وإلى الأبد؛ وهو حكم سهم المؤلفة قلوبهم الذي ذكرته لك سابقا؟ هي جميعا أوامر وردت بالصيغة نفسها وداخل كتاب واحد أم أن بعض الأحكام تهمنا أكثر من الأخرى؟ لا يمكننا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر بالبعض الآخر… ثم إذا كان عمر قد امتلك الشجاعة واجتهد بعقله سواء لوقفه العمل بحكم قطع اليد عام المجاعة أو عندما ألغى العمل بحكم سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن لاحظ في كلا الحالتين أن تطبيقهما حرفيا من شأنه أن ينسف مبدأ العدل من أساسه؛ وهو أمر إلهي كلي يشكل جوهر ومدار باقي المبادئ الأخلاقية الكلية التي أمر بها الخطاب القرآني… ما الذي يمنعنا، إذن، من التفكير ولو قليلا في إيجاد حل لهذه الطائفة من النساء التي ستتعرض حتما حياتهن للتشرد والانحراف أم أننا سنظل دائما نتهرب من الحديث عنه مكتفين بالاختباء وراء حرفية النص.. ألم يستوص نبينا الكريم خيرا بالنساء أم أنهن لا يصلحن إلا للتعدد؟… لقد طرحت عليك حالة واقعية لهذه الأرملة العجوز ووضعتك مباشرة أمام مأساتها؛ لكنك مستمر في المراوغة..
– أستاذ، هل أنت علماني؟ سألني محتجا.. أجبته على الفور:
– وهل كان عمر علمانيا؟