في أوقات معينة، في لحظات قلق هادئ تثار الكثير من الأسئلة، غير عرضية بالطبع، يشعر فيها الإنسان بأنه مدفوع بإرادة قوية لقول كلمة، أو تقديم رأي في موضوع ما، و تزداد هذه الإرادة حين تتزامن مع حدث ما يكون قد ترك في نفسك أثرا مميزا.
اليوم في الثاني عشر من فبراير من السنة الجارية، استحضر معك رفيقي أيمن، جدلا قويا و مناخا تولدت معه أسئلة قديمة /جديدة في مسار نضالنا المشترك من أجل الانتصار للديمقراطية بكل أبعادها.
تولدت هذه الأسئلة، باستحضار زمن نضالي مشترك بسياقات و خصوصيات و مواقع مختلفة؛ و استنتاجات و خلاصات متعددة، أقوى ما فيها أنها كانت تنتهي إلى ترك الاحتمالات مفتوحة أمام المستقبل بتواطؤ ضمني مشروط على أن يتم النظر لهذا المستقبل في ضوء النهار و بعين بصيرة بعيدة عن الرغبات و الأحلام الذاتية الصرفة.
و الآن، و بعد مرور ثلاث سنوات على حركة 20 فبراير، بدل الانتباه إلى المزايا التي خلقتها هذه الحركة و التوقف طويلا عند دروسها، يحاول فرسان المتاهات فتح النار عليها و إلهاء الناس عن القضايا الأساسية التي فجرتها و المتمحورة حول إسقاط الاستبداد و الفساد.
يقول أحد الكتاب “إن الجسور عبر التاريخ تعتبر أهم إنجاز استطاع الإنسان أن يحققه، ذلك أن الجسور خلقت إمكانية الانتقال و التفاعل و معرفة الآخر و تقريب المسافات، كما أنها رمز للتواصل و تمتلك صفة التحدي للعوامل التي تباعد بين الناس”. ولذلك، كان من الضروري أن أكتب في السنة الأولى لرحيلك هذه السطور عساني أعزي فيها نفسي عن فقدانك أيها الرفيق.
قبل البدء أقول أعرف قبل غيري أن أيمن المرزوقي كان عند أغلب من يراجعونه يجدون على الأقل توجيها تركيبيا لأسئلتهم، و لذلك ظلت صورته في الذاكرة، الابتسامة، الاستماع الجيد، العيون الذكية التي تتحرك بسرعة و فهم جيد للحركات و اتجاهاتها،و أخيرا ذلك الاطمئنان الذي يتولد من الثقة في المشروع السياسي اليساري الديمقراطي لجيلنا، قد يكون هذا دافعا ذاتيا لكنه قوي من الناحية الوجدانية و النفسية.
الدافع الثاني للكتابة في هذه اللحظة غير الاعتيادية بالنظر للسياق الوطني و الإقليمي و الدولي الذي يؤطرها، إيماني القوي بأنه بالرغم من الخيبات التي أصابتنا في مشاريعنا الجماعية / المجتمعية، و بشكل متكرر، كنا نستفيق مقتنعين أنها خيبة تختزن الأمل في الحصول على أهدافنا في فرصة أخرى ، بعد سعي و نفس نضالي جديد و متواصل، و بعد محاسبة أنفسنا .
أجل لقد استطاعت قوى الأصولية المخزنية و الدينية أن تستغل نوافذ فتحتها الانتفاضات الشعبية لسنة 2011 ،و أن تتقدم خطوة جديدة إلى الأمام لتعزز مواقعها التقليدية، و لذلك أمامنا اليوم مهمة جديدة و صعبة للغاية تختزل في سؤال قوي حول الدور الممكن للقوى اليسارية و الديمقراطية؟
أبدر بالقول أن هناك سبعة عناصر تأصيلية على الاقل لدور فعال لليسار المغربي و القوى الديمقراطية في المرحلة المنظورة وهي:
1. قراءة حقيقية للظروف الذاتية و الموضوعية، قراءة تقدم الدور الذي يمكن أن تلعبه التنظيمات اليسارية و الديمقراطية في اللحظة الراهنة ، و ذلك من خلال تحديد إمكانيات العمل الفعال و الناجع و ليس الإرضاء التبسيطي “للأيدولوجية”. فالحBASSركات الاجتماعية وضعت اليسار و القوى الديمقراطية في مواجهة أسئلة صعبة، و هي بالمناسبة لم تأت وفقا لوصفة إعلان يساري جاهز يشكل خارطة طريق واضحة، ذلك أن اليسار الآن لا هو يقود معارك جماهيرية، بل و حتى مواطنة، و لا هو قادر على تحقيق إحراز تقدم انتخابي من أي نوع، هذه الحقيقة ستجعله اليوم مطالب بالتفكير الجدي في إستراتيجية جديدة بكل عناصرها المادية و البشرية و اللوجستيكية و النفسية و التواصلية،
2. السياق العام بكل تناقضاته و أسئلته المقلقة قد يساعد اليسار و القوى التقدمية المدنية و الاجتماعية في خلق صوت مجتمعي قادرً على بلورة مشروع ديمقراطي أصيل داخل الحقل السياسي، و في مواجهة تشابكات هذا الحقل السياسي أيضا،كما يساعد على إنتاج أشكال من المبادرات الكمية والنوعية المرتبطة بتأطير الناس حول شعارات موحدة تعطيهم الأمل في الانتصار لمطالبهم الملحة في العيش الكريم و العدالة الاجتماعية. بالتأكيد أن هذه المبادرات ستتحرك في مساحات ضيقة، و لكنها ستكون قادرة على خلق حركة منفتحة و مستمرة لقطاعات أوسع. ذلك أن عملية إسناد الحركات الاحتجاجية رغم محدودية تأثيرها إلى الآن، يعطيها نفسا قويا لان تلعب دورا مساهما في تقديم بدائل للنضال الديمقراطي و النضال الاجتماعي ، و تؤسس بالتالي لمواقع واعية قادرة على تحفيز قطاعات واسعة للانخراط في عملية طويلة النفس، قد تكون بطيئة لكنها مغذية لمشروع النضال الديمقراطي الجماهيري.
3. أن المواقف النقدية و الشجاعة تجاه التقاطبات الحالية: المسار المخزني و المسار الأصولي من شأنها أن تؤسس لعملية إنتاج مشروع سياسي ديمقراطي قادر على التمايز، و خلق التوتر الفكري و السياسي و القيمي الضروري لتقديم اليسار كصوت بديل لهما في المجتمع، له موقعه و انحيازا ته المؤسسة على قواعد دستورية ومؤسساتية تضمن فصل حقيقي للسلط، و له إمكانيات للخوض من هذا الموقع الصراعات السياسية و الاجتماعية و الثقافية، و يعمل على الدعم التنظيمي و السياسي للحركة الاجتماعية من موقع الفاعل ، و هذا ما يجعله منبر الدفاع عن الحرية و العدالة
الاجتماعية و المساواة بين النساء والرجال و مقاومة كل أشكال القهر و يؤطر صراعا اجتماعيا واسعا لإقرار الديمقراطية ،
4. اعتبار القبول بهذا الدور- الذي يبدو متواضعا بالنظر لتعقيدات المرحلة – انفتاحا فاعلا على الفرص التي وفرتها 20 فبراير؛ فبدلاً من أن يبقى اليسار في انتظار طويل لنمو الطبقة العاملة و تبلور وعيها لتكون القوة الاجتماعية التي يستند إليها، يمكنه البدء باحتلال موقعه في الخريطة السياسية و التوجه لفئات واسعة من المجتمع –و خاصة النساء و الشباب- الذين أبانوا بالملموس انحيازهم لمواجهة الاستبداد و الفساد في كافة صوره، فهذه القوة الحية هي بوابة عودته تيارا جماهيريا قادرا على الحضور و التفاعل مع المواطنين و المواطنات .
5. الاستفادة من دروس الدينامية النضالية التي انطلقت مع حركة 20 فبراير و كشفت عن الكثير من الاختلالات التي عرقلت اليسار عن لعب دوره في تقديم مشروع سياسي جاذب يؤثر في مسار الأحداث السياسية ، و أثرت على المساهمة في الدفع ببروز تيار ديمقراطي واسع مجتمعيا،
6. اعتبار إعادة بناء يسار مغربي لن تقوم بالضرورة على محاولة توحيد فرقاء اليسار فقط و إنما أساسا على الدفع ببروز تيار ديمقراطي مستعد للحراك مع أسئلة اللحظة، و يؤسس أفقا جديدا يتمحور حول تعبئة المواطنين و المواطنات ضد كل أشكال القهر من خلال التنظيم و المشاركة السياسية.
7. محاصرة المشروع المخزني و الأصولي بالمعايير و ضوابط حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وإعداد برامج تساهم في ترسيخ قواعد الديمقراطية في العلاقة بين الدولة و المجتمع. و هكذا يلعب العمل الحقوقي دورا سياسيا بامتياز في دفع الدولة إلى إيجاد الحلول و السياسات لإقرار الديمقراطية.
8.اعتبار الدين ملكية رمزية عامة و عمومية، تبقى لها وضعيتها الاعتبارية في هوية مجتمعنا المغربي و غيره من الشعوب، و بهذه الصفة يعتبر الدين فضاء غير قابل لاستحواذ يسمح بموجبه للتوظيف السياسي،
خلاصة
بعيدا عن الانتقادات السهلة للفشل التنظيمي الكمي اليساري، فالجزء الأصعب لم يكن إنشاء حزب كبير و حسب، ولكن كان في تعبئة مواطنين و مواطنات ليتحولوا كفعل يعتبر نفسه جزءاً من تيار الدفاع عن الديمقراطية، و فصل حقيقي للسلط، ومستعد للانخراط في النضال لتحقيق ذلك. لقد تمكن الإسلاميون من جعل أنفسهم أفقا لهذا المعنى في المجتمع، ، وبالطبع تمكنت الدولة من شئ شبيه بذلك في تكوينها لأسس الاستقرار والرضا والسكوت والتسلق والرشوة، بينما ظل اليسار عاجزا عن خلق أفق لمعنى خاص به، ولهذا تصدر الإسلاميون مشهد النضال الجماهيري المناسباتي ، وتراجعت القوى الديمقراطية. إن المواطنون و المواطنات محتاجون إلى تيار يسيرون فيه، و لكي يتحقق ذلك،هناك ضرورة لتيار وعي يساري ديمقراطي جديد، مستقل عن النظام المخزني، و الفكر الأصولي، و يؤصل قواعد الدولة المدنية المحترمة لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا.