الاحتكام إلى صناديق الاقتراع آلية من آليات الديمقراطية، هدفها فرز من يتولى إدارة الشأن العام، وتدبير الاختلاف بشكل سلمي وحضاري.
لكن الانتخابات لا تنظم إلا على أساس تعاقد متين وواضح يضمن حقوق الجميع في إطار المساواة التامة بين كل مكونات الأمة، وعندما ينعدم هذا التعاقد بسبب تباعد المرجعيات وتناقضها التام، وغياب أرضية مشتركة، وشيوع الخوف لانعدام الثقة في الآخر وفي المؤسسات ذاتها، تصبح الانتخابات مجرد لعبة شكلية عديمة الجدوى.
يفسر هذا الأسباب التي جعلت المسلمين يميلون إلى اختزال الديمقراطية في صناديق الاقتراع لا غير، حيث يعتقد كل طرف بحكم عدم قبوله بالآخر، بأن الأغلبية العددية تمنحه إمكانية سحق الآخر وإخضاعه وإذلاله والتحكم في مصيره.
هكذا تصبح الديمقراطية بمثابة إجبار للأقليات على “التنازل” عن حقوقها للأغلبية الفائزة في الانتخابات، والحال أن الديمقراطية وُجدت لحماية الحقوق الأساسية للأقليات أيضا وليس لدفعها إلى التنازل عنها إرضاء لأي طرف آخر.
يفسر هذا كذلك الأسباب التي جعلت المصريين بعد الانتفاضة وبعد انتخابات من كل نوع لم يهنئوا بالاستقرار، وكذلك التونسيون، وكذلك الجزائريون، كما يفسر كيف لجأ العراقيون إلى تنظيم انتخابات تحت تهديد الجماعات المسلحة ووقع التفجيرات التي أودت بحياة مواطنين يوم الاقتراع. وهي وضعية سريالية لا يمكن تفسيرها إلا بالإصرار على الاتجاه في الطريق الخطأ، حيث لن تسفر الانتخابات عن أية شرعية ما دام الأساس الصلب غير متوفر، وهو التعاقد المدني الذي تعترف فيه كل الأطراف ببعضها البعض، وتضع دستورا يحميها جميعها من بعضها البعض ويقر بحقوقها في إطار المواطنة، وهذا النوع من التعاقد غير ممكن إلا في إطار وعي مدني ديمقراطي لا طائفي ولا ديني ولا عرقي ولا عسكري.
تعتمد الطائفية نزعة التجييش الحربي وأساليب التحريض التي تصور الطوائف الأخرى في صورة الشيطان الذي يتربص بالكيان الطائفي ويكيد له، وإذ تقوم الطوائف بالمزايدة على بعضها البعض في الدين أو العرق فإنها تضطر إلى التراجع عن كل منطلقات دولة القانون التي تصبح ضد مصالحها، حيث يصبح الفضاء العام مجالا لاستعراض عضلات الطوائف وإبراز تفوقها العسكري أو الديني، وبهذا ينعدم الأمن والاستقرار ويشيع الخوف والترقب وانعدام الثقة في الدولة وفي جدواها، حيث يحتمي الناس بالطائفة لا بالقانون، ويلجئون إلى مشايخهم ورموزهم الطائفية لا إلى الدولة الجامعة.
ومن المفارقات التي أبانت عنها الانتخابات العراقية، والتي على كل من يختزل الديمقراطية في صوت الأغلبية العددية التفكير فيها بإمعان، هي أن فكرة الأغلبية التي ينادي بها الإسلاميون السنيون في مختلف بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط تصبح مرفوضة لديهم في العراق والبحرين، فقط لأن الأغلبية في هذين البلدين شيعية وليست سنية، ولهذا يسمي الإسلاميون التفجيرات في العراق “مقاومة”، ويسمون القتل اليومي في سوريا “جهادا”، بينما يتعلق الأمر بذهنية ترفض رفضا كليا احترام الآخر واعتباره سواء كان أغلبية أو أقلية.
لا يعني هذا أن الأغلبية الشيعية ستكون رحيمة بأهل السنة إن هي تمكنت من السلطة، لا شك أنها ستسومهم الخسف وتذيقهم الهوان، ليس لأن الشيعة أشرار والسنة أخيار مساكين، بل لأن الدولة الدينية والطائفية لا يمكن أن تكون ديمقراطية ـ سواء كانت سنية أو شيعية ـ بسب طبيعة الأسس التي تقوم عليها، والدليل على ذلك أن لا إيران الشيعية ولا السعودية السنية أفلحتا في ترسيخ الديمقراطية وضمان الاستقرار.
ليس ثمة مخرج من هذا المأزق الحضاري إلا شيء واحد هو القبول بمبدأ الدولة المدنية الديمقراطية التي قاومهما المسلمون على مدى قرن كامل، وإنهاء الطائفية ووضع دساتير ديمقراطية شكلا ومضمونا ليجد كل طرف مكانته في الدولة باعتباره مواطنا ينتمي إلى الدولة لا إلى الطائفة، ولا إلى جماعة دينية، واللجوء بعد ذلك إلى الانتخابات التي لن تكون موضوع منازعة ومثار فتنة بعد ذلك. أما الاستمرار في وهم سحق الآخرين والقضاء المبرم عليهم وإقامة دولة الشريعة على أنقاضهم ورفاتهم والانتقام للماضي البعيد من الحاضر المعيب، فهذا من الدوافع الغريزية السابقة على المدنية، والتي ليست من الحضارة في شيء.