لم تجد الوزيرة شرفات أفيلال، المكلفة بالبيئة والماء، ما تجيب به برلمانيا من منطقة تيسة رفع قارورة مياه في وجهها للدلالة على أن مياه منطقته غير صالحة للشرب الآدمي، غير الرد بأن لا أحد قتل من شرب الماء،»حتى واحد ما مات بالماء». وجوابها لا يحتمل سوى تفسير واحد، وهو أنها تنتظر موت ضحية لتتحرك الحكومة، وليس استباق حدوث المكروه بطلب القارورة من صاحبها لتحليل مائها وتقييم الموقف بعد ظهور النتائج. وهي بردها على ذلك البرلماني لا تفعل أكثر من اختزال نظرة حكومية تحتقر البعد الرقابي للمؤسسة التشريعية، عدا عن تبخيس السؤال بعدم التفاعل مع المخاطر التي قد تهدد صحة المغاربة حتى لو كانت في حدودها الدنيا.
ولعل الوزيرة التقدمية لم تطلع على صور أطفال بعض المناطق النائية وحتى الضواحي المهمشة للمدن الكبرى، والذين تسربت المياه الملوثة إلى جلدهم في شكل بتور وتقيحات. لكنها بالتأكيد اطلعت على مأساة انتحار الطفلة مريم ذات الخمسة عشر عاما، والتي كاتبت رئيس الحكومة شاكية باكية من شطط رجال السلطة والحكرة التي تفتك بها يوميا أمام نظرات زملائها الذين يصفونها بـ»بنت الكريان»، لولا أن انتظارها الطويل لجواب بنكيران انتهى بلف حبل المشنقة على عنقها ورحيلها، تاركة رسالة تديننا جميعا. فما الذي خطته تلك الطفلة وسلمته لبنكيران حين أمسكت به أثناء مشاركته في مسيرة بشارع محمد السادس في الدار البيضاء؟ قالت له »أرجوك سيدي اقرأ هذه الرسالة، فمضمونها قد ينقذ أسرة من التشرد». لا أعرف ماذا فعل رئيس الحكومة برسالة المشتكية، لكن مصير الفتاة المنتحرة يوضح مآل الرسالة.
قد تكون تلك الطفلة الصغيرة اعتقدت في صدق ما تسمعه من خطابات عن محاربة الفساد والاستبداد، وإتاحة الفرصة للمعدمين والفقراء للعيش ليس على هامش المجتمع، ولكن في كنفه مع ما يضمنه لهم من حقوق وواجبات. وقد تكون سمعت أيضا رئيس الحكومة وهو يطمئن المغاربة ألا خوف بعد اليوم من الدولة، وأن الجميع »من حقه أن يقول ما يريد ويطالب بالإنصاف».. لذلك لم تكن تستوعب ما يفعله بعض رجال السلطة بوالدها الذي قال إن عشرين شخصا كانوا يأتونه من المقاطعة ويعبثون بحانوته العشوائي الذي يعد فيه بعض المأكولات لأصحاب الحوانيت المجاورة لإعالة أبنائه الستة، مضيفا أن الإهانات التي كان يتعرض لها كانت تؤلم ابنته وتبكيها. واستمر هذا الحال وفق الأب لما يزيد عن العام، دون أن يستطيع تغييره ولا صده. إلى أن قررت الفتاة وقف ذلك الصخب السلطوي بالاستسلام لسكينة الموت.
مريم كانت تعيش في »الكاريان» مثل كثيرين٬ ولم تنجح مخيلتها الصغيرة في إزاحة صورة ذلك الواقع التعيس الذي ظل يطاردها٬ وجعلها مادة للسخرية من زملائها في المدرسة. فخططت وقررت وانتحرت، لكنها تركت لنا رسالة صغيرة تقول »لاشيء يجعلك عظيما إلا ألم عظيم، فليس كل سقوط نهاية.. ولولا الأمل في الغد لما عاش مظلوم حتى اليوم».
هل ستنفع رسالة مريم في إيقاظ ضمير المسؤولين الذين قفزت بهم شعارات الربيع العربي المطالبة بالكرامة والحرية إلى السلطة؟ لم نسمع عن تحقيق فُتح حتى الآن، وكأن موت فتاة بتلك الطريقة المأساوية لا يعني أحدا. ورغم أن انتحار شاب سيدي بطاش الذي قص القائد شعره على طريقة الأكباش، ما تزال طرية في الأذهان٬ فإن استمرار بعض رجال السلطة في ممارساتهم الحاطة بالكرامة تعني أنهم لم يستوعبوا المصير الذي آل إليه القائد ابن الجنرال الذي تم عزله ووالده من الخدمة. وهذا يعني أن هناك خللا يستقر في عقول البعض ينتعش من السلطة الممنوحة لهم، ولو كان رجال السلطة يعلمون أن ثمة عقوبات قاسية تنتظرهم في حال أهانوا مواطنا أو تسببوا في انتحاره٬ لما سمعنا عن قصص تنتهي لتطلق فصولا أخرى أكثر مأساوية.
رحلت مريم، لكن شطط بعض رجال السلطة لن يرحل طالما لم يتم سن سياسة واضحة تنهي مع الإفلات من العقاب وتحمل الوزارة الوصية مسؤولية ما يفعل أفرادها. ولا أدري كم يجب أن ينتحر من مواطن، حتى تقرر الحكومة الاجتماع لتنبيه المعنيين إلى أن المغاربة يجب احترامهم وليس جرجرتهم وإهانتهم والتسبب في موتهم.