الإجهاد الذي تعرض له الحراك الديمقراطي نتيجة:
أولا- طغيان الأجندات الايديولوجية والسياسية وتضاربها، حتى صار الكثير من الفاعلين في هذا الحراك، “لا يختلفون عن ممثلي الروايات المكتوبة ، لكونهم لم يدرسوا أدوارهم، فقاداتهم الحزبية كانت تمليها عليهم!!”..
ثانيا- القمع والمناورات السياسية للسلطة، أرجعتنا مرة أخرى إلى نقطة الصفر، وإلى المنطقة الرمادية..
لكن حصيلة الحراك الديمقراطي لم تكن صفرية، لقد ساهم بصدق في تنشئة رصيد نضالي مهم، تمثل في إسقاط جدار الخوف، وتحريك المياه الراكدة حول الأسئلة المعلقة بالاستبداد والفساد والتبعية ومدى شرعيتهم ومشروعيتهم…الخ.
إن أخطر يوميات الحراك الديمقراطي عندما يتحول إلى “مسخ فوضوي” يحتكم إلى سلطة الغرائز والأهواء السياسية المتقلبة..
فالحذر الحذر من أن تتحول قوى الحراك نتيجة اليأس والإحباط وحب الانتقام إلى قوى الثورة المضادة!.
لقد كان الحراك في نسخته الأولى بمثابة تمرين بيداغوجي ثوري هام لمن يريد أن يستفيد من الأخطاء وينهض ويتقدم.. لذلك لابد لمبادرة “القطب الديمقراطي الممانع ضد مركب الاستبداد والفساد والتبعية” أن تطور مدخلاتها عبر مجموعة من الاقتراحات ووجهات النظر، المنفتحة على الأخر،إقرارا بقوة التعدد، وضعف التفرد، من خلال الدعوة لــ:
1- بناء شبكات ريزومية
قليل من الايديولوجية كثير من الفاعلية:
فكرة الريزوم مقتبسة من علم النبات، وهي مجموعة جذور لنبات غير نموذجي، دخلت حقل الفلسفة مع“جيل دولوز“ في دفاعه على فلسفة الإختلاف، واستعملها الفيلسوف ”ادوار غليسان“ من جزر الكاريبي في نقذه لمفهوم الهوية القديم الجامد، واستلهمته الحركات الاحتجاجية الشبابية في الحراك الديمقراطي..
الهوية الريزومية “هي حركة تفاعل؛ جذور تسير لملاقاة جذور أخرى.. لا تعتمد على الصفات الذاتية الخالصة، وإنما الصفات العلائقية؛ فسؤال الهوية ليس من أنا؟ بل من أنا بالنسبة للآخرين؟ وما الآخرون بالنسبة لي؟”
الهوية الريزومية هي “ظاهرة يصبح معها الوعي الجمعي أكثر قدرة على توليد نفسه أفقيا، وتسمح للإختلاف أن يكون المبدأ الأول في العلاقات والتعاقد”.
ففكرة النموذج والواحد والمتطابق والهوهو والمتساوي هي فكرة معطلة، وتخضع لقاعدة النفي والإقصاء.
والشكل الريزومي يسمح بالحركة والامتداد الشبكي، بما لا يسمح بوجود مركز يمكن شل فاعليته.. وهذا في نظري هو المناسب شكلا وروحا لفكرة القطب الديمقراطي الممانع؛ من خلال تشبيك كل مكونات المجتمع السياسي والمدني الديمقراطية.
2- تحرير الفضاء العام
من الهيمنة والإقصاء:
وذلك بجعل الفضاءات العامة المتمثلة في ميادين النضال، وقنوات التواصل الاجتماعي، ساحات فسيحة لفرز قوى الحراك الديمقراطي..
وتحويلها من ” التبعثر الفعال” إلى “التجمع السليم” بخلق شبكة مكثفة من التواصل العمومي، تبني جسورا وتهدم أسوارا، وتفتح باب النفق الطويل، على الأفق الجميل، والأمل الفسيح، وتدشن زمن العلاقات الاجتماعية والسياسية والأدبية، على أسس الحوار والتسامح وثقافة الاختلاف، وتجنب كل ما من شأنه أن يذرر ويجزئ الفضاء العام، بحيث يصبح لكل فضاؤه، المنعزل والمنحبس والمتواري، والمتمترس وراء ثقافة إقصائية ذرائعية،أفقها المخيف: كيف أنتصر لأعيش فوق أشلاء الأخرين، أو أنهزم فأموت ساخطا على القاتل!
إن توحيد الفضاء العام هو مدخل إلى تشكيل رأي عام مدني فاعل، يمتلك رؤية سياسية راشدة، وقادر على ممارسة نقذ عقلاني للسلطة، ومستعد للاحتشاد والفاعلية النضالية.
إن ما نشاهده من عودة مريبة للفيودالية – كما يسميها هابرماس- إلى الفضاء العام، بتحويله إلى مجالات حيوية محاطة بأسلاك شائكة، وكأنه ملكيات فردية خاصة، ينعدم فيها التواصل، ويسود فيها التطاحن والتهارش..
وما تشهده جامعاتنا من إقصاء وإقصاء مضاد، وصل لدرجة رفع الشهداء على أسنة الرماح، والهتاف “باسم الأموات لقتل الأحياء”!!! إلا دليل على بؤس الفكر ورداءة الثقافة السياسية السائدة..
وما تعيشه نقاباتنا من استحواذ واستفراد وبلقنة دليل على زمن النهايات وموت الإرادة، وقس على ذلك جمعيات المعطلين وجماعات الحقوقيين وأهل الثقافة والفكر، فسترى كيف يتشظى الفضاء العام، وكيف يخون الفاعل أدواره!..
فعندما يسود منطق التسوق السياسي محل القناعة والحوار والتضحية، وتتعالى أصوات الدعاية وصرخات الإشهار السياسي، وتتعارك مكونات الحراك على جماهير الحراك، استقطابا وخندقة، وتريد أن تحول تنظيماتها السياسية إلى بالوعة تبلع الجماهير، لتموت هذه الجماهير اختناقا في ردهاتها الضيقة، بدل أن تتحول هذه التنظيمات السياسية لتذوب في ساحات الجماهير الفسيحة، تدور عقاريب الساعة إلى الخلف!
وفي مقابل هذه النزعة الفيودالية المريبة، لدى قوى التغيير والحراك، نشاهد استئساد نزعة سلطوية، تحاول دولنة الفضاء العام، بجعله ساحة لترويج ثقافة الهتاف والبهرجة، وتكريس المهرجانات الماجنة لتحويل الإنسان في هذا الوطن إلى “ثلث إنسان” بدون عقل ولا روح، مختزلا في جسده!
إن متطلبات القطب الديمقراطي الممانع حاجة ملحة، من أجل تطوير المسار وتصحيحه، بتحقيق كثيرا من الامتداد.. كثيرا من العمق.. ومضاعفة الكسب الثوري.