إنصاف بريس ـ في هذا المقال يفكك عبد الرحيم الشهبي الخلفيات الفكرية التي استند عليها بنكيران لتبرير تواجده بالحكومة، كما يسلط الكاتب الضوء على واقع النخبة الحزبية في المغربية، معريا خطاب “الاستقرار” الذي يتحجج به البعض للهروب من مستحقات الانتقال الديمقراطي.
عبد الرحيم الشهبي ـ هناك إحصائيات صادرة عن وزارة الصحة مؤخرا، كشفت عن إصابة 5 ملايين و533 مغربيا بالاكتئاب، بينما يعاني 200 ألف من اضطراب انفصامي، وأن قرابة 49 في المئة من الفئة العمرية 15 سنة فما فوق عرفت على الأقل اضطرابات نفسانية في حياتها، وأن نسبة المفرطين في تناول المخدرات والكحول في تزايد مستمر.. ماذا يعني هذا؟!!
(…) لقد أدمنت الأحزاب التقليدية قاعدة الإسناد المخزنية العتيدة، ومنها الحزب المشرف على الحكومة ، على خطاب الاستقرار لوقف رياح التغيير، التي هبت على بلادنا، مع ربيع الحراك الديمقراطي الذي عرفته الكثير من الشعوب في المنطقة العربية. ولقد حاول رئيس الحكومة أن يجعل من المغرب بالوعة مسدودة، لا تدخلها حركة شهيق وزفير الحراك الديمقراطي، خوفا من الفتنة، في توظيف مبتذل للنص الديني، ويا للمفارقة، فالنص الديني من خلال موازنة سديدة، يجعل الفتنة أشد من القتل؛ بمعنى أن فتنة الاستبداد والفساد والتبعية لا تحتمل، ولا يمكن ترجيحها على ضريبة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، برغم ما ينجم عنها من استشهاد واعتقال ومحن وابتلاءات واضطرابات وارتدادات ثورية، ولكنه القياس الفاسد الممزوج بحياة الذل والرتابة ومحنة التكرار، وسوء القصد أحيانا،هو الذي ينصب نفسه محاميا عن الشيطان!.. فتكون الحصيلة المزيد من اليأس القاتل، والأمراض النفسية والاجتماعية المزمنة، كما يرصدها التقرير المذكور أعلاه..(وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا، كثير منهم، والله بصير بما يعملون) سورة المائدة:71 (…) “الاستقرار” في مقابل “الفوضى”، هذه هي أطروحة نظرية الثنائيات المتخاصمة المتخلفة، التي أربكت الفكر العربي الإسلامي منذ عصر ما سمي ب”النهضة”، وجعلته لا ينفك عن مربع الاستبداد والفساد والتبعية، فعبارة “زعزعة الاستقرار” تستخدم بشكل ذرائعي للتخويف من أي تغيير جديد يأتي بالاستقرار الحقيقي.. الاستقرار الذي يخيفون الناس من زعزعته- كما يذهب د.وائل عادل فيما يسميه بخديعة الاستقرار- “هو استقرار الظلم والديكتاتورية، هو استقرار العلاقة الاستبدادية بين الحاكم والمحكوم، هو استقرار قيم العدل والحرية هناك بعيداً… أبعد ما يكون عن دولنا… لأن دولنا تبحث عن الاستقرار.. استقرار نهب المال العام بدون محاسبة، استقرار الانتهاكات الجسيمة، واستقرار السوط في يد الجلاد، واستقرار ظهر المجلود أسفل السوط”!!
فصناع القرار في بلادنا “لا يريدون إلا ربع إنسان.. إنسان شكلا بلا روح ولا قيم ولا حرية أو كرامة وعدالة إجتماعية”.. أي إنسان القلق واليأس والإذمان والإحباط والهزيمة، كما يرصد التقرير تماما. (…) إن سنن القدر لا تتحيز، ولن ننتقل من دوامة التكرار الرتيبة إلا إذا آمنا بأن في الحياة ما هو جدير بأن يعاش، في خيارات التجديد والتغيير والإبداع والتحولات والمغامرات والتوترات والنضالات المستمرة، فعندما تكون الخيارات محاصرة بين خياري الاستقرار والاستثناء يصير الوطن نفقا بلا ضوء، وزنزانة بلا نافذة، وبرك متعفنة تسكنها الطحاليب والديدان.. ويأتي نداء القدر في كل مرة موبخا، لقد أسأتم التأليف والإخراج والآداء، فكانت المشاهد رتيبة، والفصول مكررة، والمطلوب إعادة التجربة، والعودة لنقطة الصفر، ف”التكرار وحده لن يوصلك إلى هدفك.. لأنك لن تنتقل إلى المشهد التالي إلا إذا آمنت بالتغيير وأديته ضريبته مهما كانت غالية”.. فكم هي المشاريع المخرومة الشبيهة بالمناديل المبللة بالرشح التي يتم إعادة استخدامها وتجريبها، باسم الحفاظ على الاستقرار، فيصاب المجتمع بالرذاذ القاتل؛ اليأس والقلق والإذمان والأمراض النفسية.. (…) هناك خياران: خيار وهم الاستقرار والراحة وخيار التغيير الدائم” فضاء المراغم والسعة” بالتعبير القرآني -كما يقرر ذ.محمد بنساسي في كتابه” ثلاثية النجاح”-.. فضمن منطقة الراحة يشعر الإنسان بوهم الأمان، لذلك لا يرغب في أي نوع من التغيير، لأنه رهان لا ضمانة له، ومخاطرة مزعجة -تماما كما يفكر رئيس الحكومة- كل شيء يتسم بالاستقرار، مشاهد تتكرر، وأشخاص تسود بينهم نفس العلاقات والعادات والمواقف، وكل تغيير يفسر وكأنه يعصف بالأمان والاستقرار!!!
“عندما يسجن الإنسان نفسه داخل منطقة الراحة، فإنه يؤدي مهمته في البيت والعمل بطريقة لا جديد فيها ولا إبداع.. في البيت ينام ويستيقظ، يأكل ويشرب ويشاهد التلفاز، وفي الوظيفة يدور كما تدور الآلة، وينتظر وقت الخروج، أو فترة العطلة السنوية”.. ومغادرة هذه الدائرة يحتاج إلى قرار سيكلفه بعض الألم والقلق الناتج عن مفارقة بعض العادات المتأصلة والأساليب المألوفة.. يقول الله تعالى: ” هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها“.. أي فامشوا في أطرافها ونواحيها، ولا تقعدوا في مكان واحد هو منطقة الراحة، ففي جهات الأرض فرصا أفضل للعيش والتواصل والتعارف.. منطقة التغيير هي المجال الأرحب للنهضة والتجديد والتعارف والعمل الطوعي.. يقول الله عز وجل: ”ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة“.. والمراغم بمعنى القدرة والإمكان والملجأ والمهرب.. فأرض الله واسعة، والفرص متاحة في أماكن أخرى، والآفاق واعدة في مواقف مغايرة، فلم الجمود في مكان واحد، إذا كان سيتحول إلى سجن أو قبر، ولماذا الغرق في مستنقع الواقع، إذا لم يكن يتضمن معاني التحرر والانعتاق، ولماذا التشبث بثقافة ما إذا لم تثمر سوى الهزيمة وتبرير الواقع، وإنتاج القلق واليأس والهزيمة والإحباط والإذمان- كما هو يرصد التقرير-!!! (…) حقا إن النخبة السياسية الفاسدة هي التي تنتج الجريمة، لأنها هي الأقدر على تبريرها!!! وأول عمل ينبغي أن نقوم به ونحن نطفأ الشمعة الثالثة، في زمن الحراك الديمقراطي ببلادنا، ونريد أن نشعل الشمعة الرابعة، ان نفكك منظومة الخديعة هذه، ونكشف ما بها من فجوات، حتى نعيد المواطن المقهور إلى قلب الميادين من جديد، بعدما انطلى عليه سحر خديعة الاستقرار المخذر، فوجد نفسه غارقا مرة أخرى في القلق والكآبة والأمراض النفسية والاجتماعية المزمنة والإذمان على المخذرات والكحول والدعارة والجريمة وما خفي أعظم!!!