إنصاف بريس ـ يحصل الانتقال نحو الديمقراطية، في كل بلد عاش هذه التجربة، عندما يُدرك الحاكم والفرقاء “السوسيوسياسيين” استحالة الاستمرار في العيش ضمن نفس القوالب السياسية الجاهزة، وبالتالي ضرورة تعديل قواعد اللعب القديمة، وإلا دخل البلد إلى المجهول، على غرار ما تشهده بعض البلدان العربية اليوم.
منذ ما سُمي بـ”الإستقلال”، والنخب الحزبية المغربية، تدرك هذه الحقيقة، وهي استحالة التطور والانتقال نحو الديمقراطية في ظل حكم “ملكي فردي شبه شمولي”، ما جعلها تسارع إلى رفع مطالب جريئة وتقدمية، في وجه الملك الراحل الحسن الثاني، غير أن مشكلة هذه النخبة الحزبية، ظلت دوما ممثلة في افتقادها لشعب تستند عليه في مواجهة “السلطوية”، ما سهل على المخزن الاستفراد بهذه النخب، الواحدة تلو الأخرى، عبر ثنائية “القمع والإحتواء”.
وعندما توفر هذا الشعب من خلال حركة 20 فبراير، التي هتفت بإسقاط الفساد والاستبداد، مُطالبة بإنهاء “الزمن الملكي الفردي” ودخول “الزمن الملكي الشعبي” كانت النخب الحزبية، مع كامل الأسف، قد أُنهِكت وتهالكت، وفقدت رصيدها السياسي والنضالي، بدليل ما تضمنته مذكراتها المقدمة للجنة المانوني من هُزالة مطالب، جاءت بحجم شهية الحكم الملكي الفردي، خاصة بعد أن تورطت تلك النخب في ما سُمي بحكومة “التناوب التوافقي” بقيادة اليوسفي، دون ضمانات حتى كانت المأساة، التي نعيش تداعياتها اليوم على جميع الأصعدة.
وكان حظ الشعب المغربي العاثر قد تجلى أكثر وضوحا، عندما طفا على سطح الأحداث حزب “العدالة والتنمية”، وهو حزب ذو مرجعية محافظة، بل وملكي أكثر من الملك، حتى إن مؤسسه عبد الكريم الخطيب، ظل يوصي بنكيران وصحبه خيرا بـ”المخزن”، حتى وهو على بعد دقائق قليلة من لقاء ربه، ناهيك عن علاقة مصطفى الرميد المشبوهة بإدريس البصري وعلاقة بنيكران، التي تقل شبهة، بالعميل الخلطي، فكيف يمكن لحزب وحالته هذه، أن يقود الانتقال نحو الديمقراطية، بل إن رئيسه ما فتئ في كل مناسبة ودونها، يردد، دون أن يرف له جفن، بأنه يتخلى للملك عن صلاحياته الدستورية لأنه لم يات للتنازع مع الملك ولا لإزعاجه !
ما العمل اليوم؟ طبعا من الوهم ادعاء أحد امتلاكه لوحده خارطة الطريق لكن نعتقد، من موقعنا كصحفيين، واجبهم تنوير الرأي العام والمساهمة في صناعة رأيه، أن مداخل الإصلاح على الأقل يمكن جملها في ستة خطوات؛
أولا، يجب تحرير النيابة العامة، فهي أداة بطش المخزن ووسيلته المثلى في ابتزاز خصومه ومعارضيه السياسيين، وعندما نقول التحرير لا يعني تحريرها، شكليا، عبر سحبها من وزارة العدل وإسنادها للوكيل العام بمحكمة النقض، كما يدافع عن ذلك كثيرون، بل أن يصبح هذا الجهاز الخطير تحت أعين مؤسسات الشعب، ولما لا انتخاب رئيسها مباشرة من طرف هذا الشعب، كما يحدث في كندا مثلا؛
ثانيا، تحرير الإعلام والصحافة من قبضة المخزن، باعتبارهما أقوى ركيزتين يعتمد عليهما الأخير لتسويق مشاريعه السياسية، بل والأخطر يستعملهما في تحريض المغاربة على خصومه ومعارضيه، وتذكروا ماذا قيل في حق النهج الديمقراطي والعدل الإحسان وعبد الله الحريف حين ذهب إلى بلجيكا، ونادية ياسين في اليونان، عند ظهور حركة 20 فبراير، ثم هل يمكن لجنرالات الإعلام والصحافة، ممن بات لهم أسهم في البورصات ويديرون الوكالات العقارية، بعد أن بدأ بعضهم مشواره الصحفي براتب 1000 درهم للشهر، بأن يساهموا حقا في الانتقال نحو الديمقراطية؟
ثالثا، تحرير إرادة الأحزاب السياسية المسجونة لدى المخزن، فالأحزاب هي من تعمل على تنزيل مطالب الشعب على ارض الواقع، من خلال تمثيليتها في المؤسسات، وهي من تقوده نحو الديمقراطية بتوافق مع القوة الرئيسية في البلاد، والحقيقة المرة اليوم أن إرادة الأحزاب السياسية كلها مسجونة، باستثناء إرادة قلة قلية، لا يكاد يُسمع لها اثر في المشهد السياسي العام، وهذه من أهم المشاكل التي حالت دون نجاح حركة 20 فبراير في المغرب، حيث بقيت دون سند سياسي حزبي، إلى جانب خيانة النقابات للحركة بـ600 درهم؛
رابعا، تحرير أجهزة المخابرات ووضعها تحت رقابة البرلمان والحكومة، مع فسح المجال للصحافة للإطلاع على ممارستها، باستثناء ما تعلق بالأمن القومي الخارجي، فالمخابرات أهم أداة في يد المخزن، وبها يجري ترهيب الخصوم بملفاتهم؛
خامسا، تحرير التعليم والدين من قبضة المخزن، وجعلهما تحت رئاسة مجلسين يتكون أعضائهما من أهل الاختصاص والكفاءة الأخلاقية والعلمية، وان يجري انتخاب أعضاء ورئاسة هذين المجلسين من لدن أهل القطاعين؛
سادسا، وهذا أهم من كل ما سبق، هناك أزمة ثقافية أخلاقية داخل الصحافة، المحاماة، القضاء، التعليم، الشارع، الأسرة..، ناجمة عن خطة نهجها المخزن تجاه الشعب ونجح فيها، حين أذكى بين أفراده ومكوناته الفرقة والحسد والكره والتشكيك في بعضهم البعض، الكل يشك في وطنية الكل، والكل يحارب الكل، كي لا يحصل توافق وتضامن واتحاد، وهي سياسة استعمارية مبنية على فلسلفة فرق تسود؛
السؤال المؤرق الآن: من سيعمل على بلورة هذه الخطوات إذا حظيت بالاتفاق؟ وبأي تكتيك وإستراتيجية؟ خاصة وأن دروس التاريخ في جميع البلدان التي شهدت انتقالات ديمقراطية، تؤكد أن المستفيد من الوضع لا يتخلى بسهولة عن امتيازاته؟ الجواب الإفتراضي: على جميع شرفاء الوطن كل من موقعه، صحافيين حقوقيين سياسيين برلمانيين إسلاميين يساريين ليبراليين قوميين.. أن يقتنعوا بضرورة فتح نقاش وطني يفضي إلى صياغة “وثيقة وطن” تحدد أهم الإجراءات العاجلة، قبل تقديمها للملك باعتباره المسؤول الأول عن أمن واستقرار البلد، وآنذاك سيكون الملك أمام خيارين، إما أن يلتحم، على شاكلة امبراطور اليابان، خلال القرن التاسع عشر بنخبته المُصلحة، وبالتالي تفعيل صلاحياته الدستورية لمواجهة جيوب المقاومة الموجودين في كل قطاع بما فيه قطاع الصحافة والإعلام، وإما سيختار البقاء حيث هو الآن، متفرجا على “ميسيو 10 في المائة” وعلى تمويل شكلاطة مناسبات الوزراء من المال العام باعتراف الوزير المتهم، وطبعا لا احد يمكنه ان يتصور ما يمكن أن يأتي به المستقبل أمام هكذا وضع، ولنا دروس في دول الجوار !