
آخر بحث أقدمنا على إنجازه، ولم ننشره بعد، هو “إدوارد سعيد في إيران”. وكان السبب الأساس في إنجازه هو طالب باحث إيراني (ويهم ذكر إسمه) راسلنا عبر “شبكة الاتصال الدولي” مستفسرا إيانا حول إمكان حصوله على نسخة إلكترونية من الكتاب الذي أنجزناه حول “جابر عصفور وقراءة التراث النقدي والبلاغي عند العرب” (1999). وعلى الرغم من أن الكتاب كان في شكل رسالة جامعية لنيل شهادة “دبلوم الدراسات العليا”… فإنه، وبشكل من الأشكال، لفت الأنظار إليه ولاسيما داخل مصر. غير أني لم أكن أتصوّر أن يمتد به الاهتمام، وإن في إطار من “بحث جامعي موجـَّه”، إلى إيران. ومن الجلي أن في الرسالة ما يومئ إلى نوع من الحضور للناقد المصري الحداثي الألمعي جابر عصفور في إيران، وهو حضور دال وقبل ذلك مستحق على الرغم مما يمكن تسجيله عليه من ناحية “أداء المثقف”. ولعل هذا الأداء ما عالجته في مقال “هل ينيغي إحراق جابر عصفور” (وهو متداول في شبكة الاتصال الدولي). والمؤكد أن جابر عصفور يحضر إلى جانب نقاد عرب آخرين وإلى جانب مفكرين آخرين كمحمد عابد الجابري وعلي حرب وحسن حنفي وهشام جعيط ومحمد أركون وبرهان غليون ونصر حامد أبو زيد… إلخ.
وعلى ذكر الفكر العربي، ومن المؤكد كذلك، أننا لا نرغب في أن نجعل من “إدوارد سعيد القضية ومن القضية إدوارد سعيد”، غير أن ذلك لا يحول دون تجديد التأكيد على أهميته المعرفية الراديكالية في مجال “النقد الثقافي” بعامة؛ وهو النقد الذي كان له الإسهام الأبرز في الارتقاء به إلى مصاف “الواجهة المعرفية العالمية”. وهذا بالإضافة إلى سفر إدوارد سعيد ما بين النظريات واللغات والحضارات… وعلى النحو الذي يوسـِّع من مجال النظر للترجمة والتأويل والسجال و”جغرافيات النص المختلف”. ولذلك، وفي إطار من الوعي بتزايد أهمية “الدراسات الثقافية الإقليمية” و”جغرافيات الفكر”، كنت حريصا على استفسار الطالب الباحث الإيراني حول حضور إدوارد سعيد في إيران إيمانا منا بأن “جوابه” يعكس شكلا من أشكال التلقي وشكلا من أشكال التقويم وفي “إقليم ثقافي” لا نزال ننظر إليه نظرة غير “عقلانية” ولأسباب إيديولوجية.
وفي هذا الصدد كان “جواب” الطالب الباحث الإيراني على سؤالنا المتعلق بـ”حضور سعيد” في إيران لكي لا نقول “انتشاره” أو “تداوله” وباعتباره “قيمة فكرية”. وكان الجواب كالتالي:
“[…]
وبالنسبة للراحل ادوارد سعید فإنه خامل الذکر فی ایران . لا یکاد یعرفه أحد . وذلك أن الدرسات الخاصة بالثقافة و المعرفة بالاخر وکیفیة المثافقة معه فی بدایة الطریق فی ایران.
علی العموم إن وضع النقد والدراسات الأدبیة فی ایران علی نفس الوتیرة فی العالم العربی من حیث الانبهار والإعجاب واستقبال کل جدید غربي (بالترجمة أو التألیف) دون نقد وتحمیص للتأکد عما اذا یتوافق هذا الجدید مع ثوابتنا الفكریة والثقافیة والعقدیة.
واذا ظهر بعض المفكرین فی العالم العربی من أمثال ادوارد سعید حذروا من النقل والتطبیق الآلي لكل جدید غربي، فلحد الآن لم یبرز لدینا فی الثقافة الفارسیة صوت بارز بحجم إدوارید سعید یتحدث عن المخاطر وعن الخلفیات العالقة بالمناهج النقدیة التی أصبحنا نلوکها لیلا ونهارا.
نعم هناك بعض المفكرین برزوا فی إیران فی مجال علم الاجتماع وعلم النفس وحتی علم الحقوق، تحدثوا عن إیجابیات وسلبیات الوافد الغربی وذکروا أننا یجب أن نراعی بعض خصوصیتنا الثقافیة والمحلیة فی قبول أو تطبیق الأفكار والآراء الغربیة، لكن فی مجال الأدب و النقد فإن الانبهار بالمنجز الغربی مازال علی أشد حالته .
و اذا حدثت موجة فی العالم العربی بخصوص العودة الی التراث و الانتماء الیه والاحتماء به فی مواجهة الوافد الغربی (فی حالة القراءات السلفیة علی تعبیر الراحل الدکتور محمد الجابری)، أو العودة الی هذا التراث وقراءته من منظور معاصر للكشف عما فیه من إیجابیات وسلبیات (في حالة القراءات الحداثیة/ التنویریة) ، فإن مثل هذه الدرسات لم تزدهر کثیرا فی الثقافة الفارسیة، ذلك أن التراث الذی خلفه العلماء الإیرانییون مكتوب کله باللغة العربیة، مثل کتابات الجرجانی – ابن سینا والبیرونی والزمخشری و…
یعنی إن موضة الأصالة و المعاصرة التی شاعات فی العالم العربی المعاصر لم یكتب لها شیوع لافت فی ثقافتنا ولغتنا الفارسیة”.
وإذا جاز أن نلاحظ فإن صاحب الرسالة يجيب من داخل دائرة النقد الأدبي؛ ولكن أخطر ما في كلامه، وبما يجعله يفارق الدائرة السالفة، أن “موضة الأصالة والمعاصرة” لم يكتب لها الحضور في الفكر الفارسي، مما ــ وكما يمكننا تأويل ذلك ــ حرم هذا الأخير من “ثابته ومتحوله” ومن “نزعاته المادية” و”إيديولوجياته المتصارعة”… وغير ذلك من التيارات التي كتب لها الشيوع والتداول في الفكر العربي المعاصر حتى وإن لم يفلح هذا الأخير في اجتراح فكر قادر على التشابك، المثمر، مع نص الواقع العربي ومع ألغامه الصاعقة ومع زوابعه الذهنية المخلخلة.
لقد حرصت على استحضار الجانب الأهم في الرسالة، لأنه يفيد بل ويغني عن قراءات كتب بأكملها فيما يتعلق بالعلاقة مع إيران. علاقة لا تزال قائمة على التوجس والكراهية. وهذا هو الموضوع الذي سنخوض فيه في المقال القادم؟