إنصاف بريس ـ عندما تشيد فرنسا بدستور المملكة المغربية وتبارك “الإصلاحات” في ظل قيادة الملك محمد السادس لا تنتني عناوين معظم الصحف الوطنية عن ذكر ذلك، وحين حاول القضاء الفرنسي الإستماع إلى مدير “الديستي” عبد اللطيف الحموشي، قرأت فرنسا في الصحف الوطنية ما لم يكتبه الإمام مالك في حق الخمر.
ماذا كان سيضُر السيد الحموشي أو حتى المملكة المغربية بكاملها، مادامت أصبحت قضية دولة، لو مثل الحموشي أمام القضاء الفرنسي كأي مسؤول سام يحترم القضاء، مؤازرا بدفاعه، ومستندا على حجج براءته، ألم يكن ذلك كفيلا بإعطاء صورة إيجابية عن مستوى الوعي الديمقراطي الذي وصل إليه المسؤولون المغاربة كونهم يحترمون القضاء والمؤسسات، مع تجنيب المملكة أزمة هي في غنى عنها؟
لنطرح السؤال في الإتجاه المعاكس حتى تبدو الصورة أكثر وضوحا: ماذا خسرنا من هذه الازمة؟
أولا، قدمنا صورة سيئة عن علاقة مسؤولينا السامين بالقضاء، حيث زكينا أمام العالم أنهم فوق القانون، خاصة وأن التاريخ يشهد مثول رؤساء دول أمام القضاء؟
ثانيا، قدمنا فرصة جديدة لمن لم يسبق له أن اطلع على شريط فيديو البطل زكريا المومني، الذي يتحدث فيه عما تعرض له من “تعذيب” في معتقل “تمارة”، وهو نفس الخطأ الذي ارتكب في قضية الصحفي علي أنوزلا، حيث بسبب اعتقاله حظي شريط القاعدة بأكبر نسبة من المشاهدة.
ثالثا، وفرنا لخصوم المغرب فرصة مجانية ليؤكدوا للعالم مزاعمهم حول ضيق صدر المملكة الديمقراطي.
رابعا، جعلنا الشعب المغربي يُدرك “المكانة المقدسة” لجهاز “المخابرات” في المغرب، وهو رد فعل لم تقدم عليه السلطات المغربية ضد العديد من انتهاكات حقوق الإنسان التي أقدمت عليها السلطات الفرنسية وغيرها من السلطات الغربية ضد الجالية المغربية في كثير من المناسبات، ولا ضد مذكرة الإعتقال التي أصدرها القضاء الفرنسي ضد الحنرال حسني بنسلمان في قضية “اختطاف” الشهيد المهدي بنبركة.
الشأن الوحيد في الحياة الذي لا مكان فيه للعواطف والانفعالات السريعة هو الشأن السياسي، لأن تكلفة أي ردة فعل غير محسوبة تكون وخيمة، ليس فقط على صاحب الفعل، وإنما على مصير شعب يقف وراءه، فمن غير المعقول أن نغضب ونطلب إغلاق الحدود مع الجزائر بسبب حادث ثم نعود لنستجدي فتح تلك الحدود، وليس من المعقول أن نقطع العلاقات مع إيران فقط بسبب تقرير جهاز من الأجهزة، ثم نعود لإستئناف العلاقات بعد أن تستأنفها واشنطن معها، وليس من المعقول اليوم أن نوقف جميع أنواع التعاون القضائي فقط لأن القضاء الفرنسي أراد الإستماع لمسوؤل سامي في شكاية قد تكون كيدية، خاصة وأن أحد أصحابها مدان في الإتجار الدولي في المخدرات، فيما الثاني مدان بذبح رجال أمن في احداث “إكديم إزيك”، وليس من المعقول أكثر أن نخلق صراعات في كل مكان مع موريتانيا والجزائر وجنوب إفرقيا وإيران واسبانيا.. فقوة السياسي لا تكمن في خطابته وجودة برامجه وإنما أساسا في قدرته على حشد أكبر قدر من الحلفاء لصالح قضيته، خاصة إذا كانت هذه القضية على كف عفريت، فقليل من الروية والحكمة لأن “الإندفاع العاطفي لايمحي المسؤولية” كما يقول الحكماء.