لا أخفي أنني، ومن موقع الإفادة، كنت حريصا على تتبـُّع أشغال ندوة “المسألة التعليمية بالمغرب وواقع التعدد اللغوي” التي أقامتها، ومؤخرا، جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي بأصيلا، وعلى وجه التحديد يوم السبت الذي كان اليوم الأول من شهر مارس الجاري. والمؤكد أن الموضوع شائك ومتشابك، مثلما هو أبعد وأشكل من أن يعالج اعتمادا على المقترب اللساني بمفرده. فالعلوم الاجتماعية تبدو حاضرة بالنظر للطابع الاجتماعي والإثني المتزايد للغة بالمغرب، وبالنظر للكثير من قضاياها وظواهرها. اللغة، هنا، باعتبارها أداة للتواصل، وباعتبارها رؤى وتصوّرات، وباعتبارها قناة لتصريف أشكال المنتوج الثقافي والرمزي.
وقد كانت الجمعية موفقة من خلال استقرارها على “مطبخ التعليم” لتجديد النقاش حول اللغة وتحديدا من خلال ما نعتته بـ”التعدد الغوي”. وفي الحق هو محور لقياس جانب من النقاش العام الدائر، والجاري، حول “المطحنة اللغوية” (بالمغرب) وإذا جاز أن نأخذ ـــ ومن باب “الواجب الأكاديمي” الإشارة إلى ذلك ــ بمصطلح الناقد والمعلق الأبرز والأشرس صبحي حديدي. إننا، فعلا، داخل المغرب، بإزاء مطحنة لغوية توازيها مطحنة أخرى ــ لا تقل عنها خطورة ــ وهي مطحنة النقاش بأطرافه ومضامينه.
وعلى الرغم من أنني أعمل مؤطرا للأساتذة المتدربين في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وفي تخصص اللغة العربية ذاتها، فإنني أخشى الكلام في التعليم وواقع التعليم بالمغرب. وهو واقع لا يبعث إلا على التشاؤم المتزايد، فيما اللغة داخله قوامها العنف العاري الذي هو دليل على نوع من التصحـّر الحاصل في الأذهان مثلما في المخيال وفي العقول مثلما في القلوب.
وبالنظر لطبيعة المقال لا يهم استحضار المتدخلين الثلاثة بمرجعايتهم المختلفة، هذا وإن كان من المفرض أن تكون “التمثيلية الفكرية”، في الندوة، أقوى مما كانت عليه. ومع ذلك أشاطر أحد المتدخلين من الذين ركزوا على “الإنهاك الهوياتي” الحاصل بالمغرب، هذا وإن كنا نفضل من جهتنا التركيز “التحوّل الهوياتي” وفي إطار من “انفجار ثقافي كلي” بالمغرب والعالم ككل… بالنظر إلى “الثقافة” التي صعدت إلى السطح كما قال المرحوم محمد عابد الجابري في كتيبه “المسألة الثقافية”.
ولعل في هذا التقدير للثقافة، والنقد الثقافي، ما يجعلني أعترض، وبالكلية، على ما ذهب ليه المتدخل نفسه حين خلص إلى أن اللغة ــ وبعد أن يتفق المغاربة ومن خلال نقاش عام ــ هي “مسألة تقنية” وبالتالي فهي مسألة “كلفة”. المؤكد أن صاحب الرأي وهو أستاذ مادة اللسانيات في الجامعة المغربية كان يخصه الوقت، وأكثر، ليشرح فكرته. واعتراضنا أن هذا حصل في بلدان أخرى، لكن على أساس من قاعدة اجتماعية وعلى أساس من تدبير هوياتي لا مجال فيهما لذلك النوع من “الخلط” إن لم نقل “البلقنة” التي بموجبها يتحوّل، وهذا حاصل بالمغرب، النقاش حول “الاختيارات اللغوية”، إلى مجال لتصريف أشكال من المكبوت الهوياتي وأشكال من التهميش الجغرافي. ومن ثم الطابع الاجتماعي والإثني الغالب كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
متدخل آخر أصرّ على التعاطي مع المسألة اللغوية انطلاقا من المقارنة مع فرنسا، وتعيينا تقديس الفرنسيين للغتهم. وقد ظل يسرد الأفكار والمعلومات والمقارنات… وكما كنت أود أن أهمس، في أذنه، وحتى نلخص الحكاية بجميع خيوطها، بما كان قد قاله صاحب كتاب “هوية فرنسا” المؤرخ فرنان بروديل من أن “فرنسا، هي اللغة الفرنسية”.
المتدخـِّل نفسه تحدث عن الدستور، وبنوع من الاطمئنان الذي لا يمكن إلا الاعتراض عليه. وموضوع الدستور، والدسترة، كثيرا ما تم التعامل معه وكأنه “الحل الأوحد”. وهو موضوع يتكرر في أثناء النقاش حول الديمقراطية والمرأة… إلخ. أجل إن الدستور مدخل أساس وإلى الحد الذي دفع إلى القول بأن ثورات العالم العربي هي ثورات الدساتير والدسترة. وحتى مؤرخ، في حجم العروي، وفي سياق حوار حول “ثورات العالم العربي”، ركـَّز على أن أهم ما حقـَّقته “ثورة مرجعية” وفي حجم “الثورة الفرنسية” هو الدستور. إلا أن مناط الاعتراض، هنا، أن الدستور، بمفرده، غير كاف؛ فهو “آلية”. وكان المهدي بن بركة، وفي “الاختيار الثوري”، قد ألح على أنه “من الواجب أن لا نترك الناس يعتقدون أن كلمة دستور كلمة بمثابة كلمة سحرية تحل المشاكل”. ولذلك فإن التنزيل محكوم بسياقات التداول والمحيط والتربية والإنتاج الاجتماعي… محكوم بالثقافة السائدة، ومقاومة السياقات المعاكسة من مقاومة الثقافة المعاكسة.
وحتى ننتقل، وبإيجاز، إلى فكرة أخرى، وهي في غاية من الأهمية المعرفية، فإن في الإحالة على فرناند بروديل ما يدّل على أهمية المؤرخين والمفكرين والمثقفين في التعاطي لموضوع لغم اللغة… وخصوصا في المدار الذي يقرنها بالتعليم كما في حال موضوعنا. ليس هناك ما هو أخطر، وفي إطار من النقاش، من ترك التعليم للمشتغلين بقضايا التعليم. فما كتبه الجابري والعروي وجسوس… يظل يفرض ذاته بإحاح، ويمكن تطويره في ضوء المتغيرات الحاصلة في مدار النظرية والممارسة.
وفيما يخص القاعة فالخلفية الدينية كانت بارزة، في التعاطي للمسألة اللغوية، وعلى النحو الذي ذكرني بما كان قد ذهب إليه الرئيس الجزائري بوتفليقة [ومن موقع المزاودة، طبعا]، وقبل نحو عقدين، وحين سألته الإعلامية جيزيل خوري في “حوار العمر”، عن مطالب الأمازيغ وخصوصيتهم الثقاف
ية بالجزائر، فكان جوابه القاطع: “الجزائر لن تتحدث سوى لغة القرآن”. ولعل هذا ما جعل متدخلا، من القاعة نفسها، يركز ــ وبأحقية ــ على اللغة الأمازيغية والمكوِّن الأمازيغي ككل في النسيج المجتمعي المغربي.
وكما قلنا، في مناسبة سابقة، وفي سياق نقد ثقافة الكراهية والتطرف بالمغرب، لا مجال، للتعدد اللغوي والسياسة اللغوية والاختلاط اللغوي والثراء اللهجي… إلخ. ولا مجال للأخذ والاقتباس والإفادة من جهابذة اللغويين واللسانيين والفلاسفة، ومن المعاصرين والقدامى، من الذين درسوا اللغة بعمق وبرهنوا ــ في الوقت ذاته ــ على المعضلة اللغوية أو “وحش اللغة”. ولا مجال لـ”التصور المرن” للغة الذي بموجبه تتكشف الهوية بمعناها الوطني المنفتح الذي يفسح للثقافات الفرعية بأن تدعمه، وبما ينأى بنا عن “الهويات العمياء” أو “الهويات القاتلة” كما نظّر لها فلاسفة مدرسة فرانكفورت. فاللغة، هنا، وبدورها، تدخل في “الحرب” إن لم نقل بأنها تصير مرادفة للحرب. هذا وتجدر الإشارة إلى أن المشكلة، هنا، ليست في اللغة، وإنما في “مجمل الأفكار” التي تحاط بها.