
يبدو أن المساحة أصبحت متاحة اليوم أكثر من أي وقت مضى أمام ما يسمى ب”الدولة العميقة” للعودة إلى الفراغ الذي تركته مجبرة أمام ضربات وقوة الحراك الذي شهده المغرب سنتي 2011 و 2012، والذي خلخل العديد من المعادلات التي لطالما آمنت بها العديد من القيادات اليسارية والإسلامية لدرجة أن أصابها العياء إلا استثناءات قليلة لا زالت تؤمن أن التغيير ممكن أمام الأخطبوط المخزني الذي يستقطب الأخضر واليابس إلى صفوفه مستعملا الجزرة تارة والعصا لمن يبدي ممانعة أو مقاومة تارة أخرى حتى وإن كانت مبحوحة وفي دائرة ضيقة .
ومما عزز هذه العودة القوية لما أصبح يسمى “بالدولة العميقة” هو ضعف وتراجع الحراك الشعبي الذي أثرت في تجاهه عوامل داخلية وإقليمية بعد أن هز المغرب بداية سنة 2011 وجعل الحكم القائم يتنازل عن العديد من الصلاحيات لكن سرعان ما تم الالتفاف عليها كما العادة حيث عمل على الاستفادة من عامل الزمن الذي لعب لصالحه، ومن الأخطاء التي ارتكبتها مجموعة من التنظيمات الفاعلة والداعمة لحراك الشباب خاصة بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان من المجلس الداعم مما خلف فراغا باديا .
كما أن الضعف الذي أبان عنه رئيس الحكومة الذي جاء في سياق ربيع الأمة، والاستراتيجية التي نهجها حزب العدالة والتنمية كان من العوامل التي ساهمت في الهيمنة التي أصبحت واضحة للمؤسسة الملكية، خاصة بعد أن تنازل بنكيران عن مجموعة من صلاحياته بدعوى خلق حالة من الثقة بين حزبه الإسلامي والملكية، وما نعيشه هاته الأيام من نقاش حول تجاه الحكومة إلى توسيع بشكل فج سلطة تعيين القصر في المناصب العليا والمؤسسات العمومية الكبرى والاستراتيجية، لتنتقل حسب مشروع القانون التنظيمي رقم 12 ـ 14 إلى 41 مؤسسة توصف بالكبرى وذات ثقل، ولم يبقى لرئيس الحكومة من تعيينات إلا المؤسسات الصغرى وفي أحسن الأحوال المتوسطة وهي ذات تأثير متواضع.
وإذا كان عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة دائم الشكوى فإن رجال تلك الدولة رغم أنها أقل شأنا منه إلا أنها تجد في كلامها كل الثقة بل وتقدم الحلول والمشاريع والأموال، لذلك نجد وزير الداخلية وهو من رجالات الدولة التقنوقراط يتحدث في البرلمان على سبيل المثال يوم الثلاثاء الماضي في مجالات واسعة تفوق كل الوزراء بما في ذلك رئيس الحكومة فقد أجاب عن أسئلة تهم السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماعية كالصحة والنقل والبناء العشوائي..بل أكثر من هذا يقدم أجوبة حقيقية ومقنعة في عمومها، ولا يشتكي بأنه ليس هناك سيولة مالية، فلما تحدث حصاد على سبيل المثال مرة أخرى في تلك الجلسة البرلمانية عن أزمة النقل الحضري، قال سنجد حلا والإمكانات المالية موجودة وكبيرة وقدم أرقاما مالية كبيرة قال إن وزارته ستحل هذا المشكل، في حين ما فتئ بنكيران وهو رئيس الحكومة يدمي قلوب المغاربة “الفلوس مكاينشي”، طبعا كل هذا مقصود لتقديم التقنوقراط هم أصحاب الحلول والأموال في حين الشخصيات المنتخبة لا تملك من أمرها شيئا .
ومن العوامل المساعدة لعودة هذه الدولة هي الاستراتيجية التي تنهجها، وأساليبها تعتمد على ثلاثة أمور في غاية الأهمية بالإضافة إلى أساليب أخرى وفي مقدمتها :
ـ لإيقاف تلك الممانعة التي تعززت إبان الحراك عمل المخزن على اعتقال العشرات من رموز حركة 20 فبراير والعمل على فبركة العديد من الملفات للضغط عليها ودفعها لتغيير مواقفها، ولا زالت السجون المغربة تعج بها وسط صمت رهيب من طرف المكونات السياسية والحقوقية والإعلامية ولا تذكر إلا لماما وفي بعض المناسبات ليس إلا .
ـ أيضا الآلة المخزنية تتحرك على قدم وساق وتجمع بالأخضر واليابس لاستقطاب كل الأسماء التي برزت على مختلف المستويات والمجالات، السياسية والحقوقية والنقابية والجمعوية والإعلامية ..خاصة الشابة منها، ومجموعة من الأمثلة ماثلة اليوم أمامنا وبشكل واضح ، وتستعمل في ذلك مختلف أنواع الإغراء المادي منه على الخصوص، حيث أصبحت بعد استقطابها تعمل على تنزيل مشروع تلك الدولة كل حسب اختصاصه ومجالاته.
ـ النقطة الثالثة هنا تتعلق بالإعلام وهو مربط الفرس عندنا خاصة على مستوى الإعلام الإلكتروني الذي انتبهت الدولة مبكرا لدوره المهم، حيث تأسست وفي عز الحراك مجموعة من المواقع الإلكترونية التي يمكن لأي متتبع مبتدئ أن يحدد خطها التحريري، ودورها يتمثل أساسا في الدفاع عن اختيارات الدولة، وبعضها تخصص وبالواضح في مهاجمة وتشويه المعارضين وتستعمل لهذا الغرض أبشع أنواع القذف والسب صباح مساء، وشخصيا وقفت على الإمكانات المادية الضخمة التي ترصد لها، وعلى المقرات الفخمة وعلى السيارات والشقق التي توجد بحوزة صحفييها رغم أن هذه المواقع لم يمر عليها مدة طويلة ولا تتوفر على إعلانات ولا على إشهارات كبيرة.
والخلاصة اليوم بعد تحديد السنة المقبلة للإنتخابات الجماعية والتي بعدها للإنتخابات التشريعية، ما جدوى كل هاته الاستحقاقات وما تتطلبه من رصد أموال ضخمة المغاربة في أمس الحاجة إليها إذا كان سيتم تعزيز مكانة المؤسسات المعينة على حساب المؤسسات الشعبية والمنتخبة التي أصبحت ونحن بالكاد خرجنا من الحراك بلا طعم ولا رائحة ؟.