عماد كزوط ـ في تطور مُثير في فكر ومنهج “السلفية الجهادية” بالمغرب أصدر أحد رموزها، حسن الخطاب، الذي ارتبط اسمه بما يسمى بخلية “أنصار المهدي”، من داخل سجنه، كتابا قد يرى فيه البعض ثورة على الفكر السلفي الجهادي الذي يسعى لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، الكتاب الذي حمل عنوان: “مفاهيم التيار السلفي بين دولة الإنسان ودولة القرآن”، يدافع من خلاله حسن الخطاب على “دولة الإنسان” بدل “دولة الخلافة”، وهو تحول كبير في فكر سلفي اتهم بـ”التطرف” ومحاولة “زعزعة استقرار” المغرب من أجل إقامة “دولة الخلافة”.
فعلى أي أساس شرعي ديني استندت دعوة الخطاب؟
الخلافة والإمامة في القرآن
انسجاما مع طرح حسن الخطابي، يؤكد المفكر المصري محمد عمارة في تقديم كتابه “الخلافة وأصول الحكم” للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، أن هذا الأخير خلق أكبر زوبعة سياسية ودينية في التاريخ الإسلامي المعاصر من خلال نفس الكتاب، حُرِمَ على أثرها ملك مصر الفاروق من منصب الخلافة، في الوقت الذي جَنَّدَ فيه كل دواليب الدولة للحصول عليه. وضمن هذا السياق يفجر الشيخ الأزهري الحاصل على الشهادة العالمية علي عبد الرازق قنبلة من العيار الثقيل، زعزعت كل القناعات القائلة بوجوب الخلافة الإسلامية وكذا تطبيق الشريعة الإسلامية بناء على الحجج الشرعية الثلاث: “القران السنة الإجماع”.
يستهل علي عبد الرازق حججه تلك، بالآية القرآنية ” يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله … وأطيعوا أولي الأمر منكم”، ليؤكد عبد الرازق أن الآية في عمقها تقصد: الخلفاء، القضاة، وأمراء السرية في عهد الرسول، مضيفا أنه من عُجَبِ العُجَابْ أن تأخذ بين يديك كتاب الله، وتراجع النظر فيما بين سورة الفاتحة ووسرة الناس فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل في كل شيء، من أمر هذا الدين “ما فرطنا في الكتاب من شيء” ثم لا تجد فيه ذكرا لتلك الإمامة العامة أو الخلافة.
السياق الصحيح للأحاديث النبوية القائلة بالخلافة
ويسترسل عبد الرازق، في نفس السياق، و هذه المرة من زاوية الأحاديث الداعمة لها، حيث يقول: إذا تتبعنا القضية، نجد أن كل ما يريدون الرجوع إليه هؤلاء من أحاديث الرسول “ص”، لم تجد فيها أكثر من ذكر الإمامة أو البيعة أو الجماعة، مثل حديث “من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية”…
وعليه، يفترض عبد الرزق صحة كل هذه الأحاديث، تفاديا للجدال العقيم على حد قوله، مسترسلا في السياق ذاته: إذا كان صحيحا أن النبي عليه السلام، قد أمرنا بأن نطيع إماما بايعناه، فقد أمرنا كذلك الله تعالى أن نفي بعهدنا لمشرك عاهدناه، فما كان ذلك دليلا على أن الله رضى الشرك، ولا كان أمره بالوفاء للمشركين مستلزما، كما أمرنا الشرع بإكرام السائليين واحترام الفقراء، فهل يستطيع ذو عقل أن يقول إن ذلك يوجب علينا شرعا أن لا نُوجِدَ بيننا فقراء و مساكيين؟
“الإسلام لم يأت بنظام سياسي”
بعد تفنيد علي عبد الرازق لطرح “الخلافة الإسلامية”، يتجه صوب تأكيد فحواه: أن الرسول لم يكن له ملك سياسي، و لا أن فرض على أمته نظاما سياسيا معينا، بقدر ما جعل الأمر شورى بين المسلمين، إذ من حق الأمة حسب قول عبد الرازق أن تختار النظام السياسي التي تريد، مراعاة لخصوصية زمن تطور الأمة الإسلامية، فضلا عن أن مسألة عدم تعيين الرسول، للحاكم الذي سيخلفه بعد وفاته خير دليل على ترك إدارة شؤون المسلمين لأنفسهم، يضيف علي عبد الرازق.
ولتزكية وجهة نظره يستعرض عبد الرزاق عدد من الآيات القرآنية مثل ما ورد في سورة الأنعام “وكذب به قومك وهو الحق، قل لست عليكم بوكيل، لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون”و ” وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل” ثم سورة الشورى “فإن أعرضوا فما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد” فسورة الغاشية “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ألا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر”.
وهكذا يؤكد علي عبد الرازق، أن القرآن يمنع بشكل صريح أن يكون الرسول حفيظا ولا وكيلا ولا جبارا ولا مسيطرا على الناس، ومن لم يكن حفيظا ولا مسيطرا فليس بحاكم سياسي، باعتبار أنه من لوازم حكم الدولة وتسييرها حسب الشيخ الأزهري هي السيطرة العامة والجبروت والسلطان غير المحدود، بحيث من لم يكن كذلك على حد قول الشيخ، ليس بحاكم سياسي، حسب قوله تعالى في سورة الأحزاب “ما كان محمدا من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئيين وكان الله بكل شيء عليما”.
بهذا يكون القرآن على حد قول عبد الرازق صريحا في أن محمدا “ص” لم يكن له من حَقٍّ على أمته غير حق الرسالة، وعليه تفتح الشريعة الإسلامية الباب على مصرعيه أمام القوانين الوضعية، وهي الأساس الذي يقوم عليه النظام “العلماني=المدني”، بكل بساطة بعيدا عن تغليط الفقهاء، يضيف علي عبد الرازق.
“نظام الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يؤدي بنا سوى الى بحر من الدماء”
ودعما لهذا الطرح، يتجه المفكر فلسطيني عزمي بشارة في سياق تحليله من الناحية السوسيولوجية، لانعكاس تطبيق الشريعة الإسلامية على الاختلاف الطائفي و المذهبي التي يعرفه العالم الإسلامي، إذ يرى المفكر الفلسطيني أن المجتمع المصري على سبيل المثال يتكون من عشرين بالمائة من المسيحيين، فهل يقبل المسيحيون بمصر أن يطبق عليهم نظام الشريعة الإسلامية؟ هذا بشأن المسيحيين، أما إذا نظرنا بخصوص الاختلاف الحاصل بين المسلمين
أنفسهم من شيعة وسنة، فهل يقبل مثلا شيعة البحرين تطبيق نظام الشريعة الإسلامية بخلفية سنية؟ وهل سنة إيران يقبلون بتطبيق نظام الشريعة الإسلامية بمرجعية شيعية؟ يضيف بشارة متسائلا، قبل أن يجيب: بالطبع لا، باعتبار ذلك هو ما سيؤدي إلى حروب دينية لا يمكن أن يوقفها عفريت، وهذا ما جعل أوربا تغوص في بحر من الدماء منذ القرن 16 بين البروتستان والكاتوليك والكلفان.. إلى أن عرف النظام العلماني وجوده بموجب شعار الثورة الفرنسية”حرية، ديمقراطية، مساواة، إخاء” في القرن 18.
قد يقول قائل إن الآية الكريمة تقول احكموا بما انزل الله انسجاما مع الآية الكريمة التي تقول: احكم بما انزل الله، وفي آية أخرى “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، فيعلق المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه “الدين والدولة” بأن كتاب الله لا يمكن أن يتعارض مع مصلحة المسلمين، ولا أحد “منا قد تكون له دراية بالدين مثل عمر ابن الخطاب، ومع ذلك جَمَّدَ مجموعة من الحدود التي كانت صريحة في القرآن من اجل مصلحة الأمة”. يضيف محمد عابد الجابري.
وبصرف النظر عما تقدم به عبد الرزاق أو الجابري او بشارة، تبقى الأسئلة المثيرة والمستفزة لماذا يرفض الفقهاء العلمانية بهذه الشراسة هل لوازع ديني صرف أم لكونها ستضع حدا لامتيازاتهم سواء المادية أو الرمزية؟ ثم لماذا تطور الغرب فقط حين تبنى العلمانية؟ هل العلمانية معركة الفقهاء أم معركة الحكام الذين يقفون خلفهم؟